جلست بالحرم المكي وبجواري أحد الزوار من خليجنا العربي وبصحبته اثنان من أبنائه، تتجاوز أعمارهم العاشرة بقليل. اللافت في الأمر ليس لباسهم الأنيق، ولا حتى هدوؤهم ومراقبتهم لوالدهم عند كل حركة تصدر منهم، بل كمية الأوامر والنواهي التي تنهال عليهم من والدهم خلال جلسة قصيرة لا تتجاوز بضع دقائق! ولأنا – بصراحة – نتقن ملاحظة سلوك غيرنا، ونجيد نقده في الوقت الذي تغيب عنا كثير من تصرفاتنا الخاطئة، دفعني هذا المشهد لمراجعة حساباتي والتأمل في سلوكنا كمربين تجاه سلوك أبنائنا، فكيف لعقل الصغير الذي يتصرف بعفوية أن يستوعب كل هذه الأوامر والنواهي والزواجر، وكيف لقلبه أن يتحمل ذلك النقد، سيما أنه ما نقف عنده في الغالب لا يعدو كونه وجهة نظر يسوغ الاختلاف فيها، ومع ذلك نرغمهم على أن يفعلوا الأشياء كما يروق لنا وبنفس الطريقة التي نفعلها. إن الإفراط في النقد يقتل الإبداع والابتكار في نفوس الأبناء، ويشل تفكيرهم ويعطل حواسهم، وينشئ جيلاً ضعيف الشخصية مهزوز الثقة، مسلوب الإرادة، لقمة سائغة في يد غيرنا، تتجاذبه التيارات المنحرفة، وتتدافعه الأمواج العاتية. علاوة على أن استخدامه دائماً يجعله عديم الفائدة بسبب تعود الطفل عليه؛ مما يضطر الوالدين لاستخدام أساليب أكثر حدة. فيجنح بعض الآباء إلى إجبار أبنائهم على فعل عمل لا يرغبون فيه أو ترك عمل يحبونه؛ لسهولة هذه الطريقة في تعديل سلوك أبنائهم بدل الإقناع أو اتباع الطرق العلاجية التي تتطلب وقتاً. وهذا المسلك قد يؤدي إلى نتائج عكسية في المستقبل، فيصبح الابن أكثر رغبة في ممارسة ما منع منه وهو صغير، ويزداد بعداً عما أجبر عليه. فضلاً عن ما تؤدي إليه بعض الممارسات القاسية من مشاكل صحية. إن ترك مساحة كافية للطفل لممارسة ما يريده، واتخاذ القرار الذي يراه بمتابعة والديه، وبما تمليه عليه تربيته وفطرته السليمة، ولا يخالف الدين والقيم حق مشروع له، ليتعلم كيف يدير حياته في مستقبل أيامه. ولدينا الكثير من البدائل للتقليل من النقد وتوجيه الأوامر كالتحفيز وممارسة السلوك الصحيح أمام الأبناء واجتناب ضده، مع استخدام بعض الطرق الذكية كأن يتفق الوالدان مع أبنائهم على ما يريدونه منهم، وماذا سيخسره الطفل في حاله مخالفته لما تم الاتفاق عليه، أو حتى من قبيل التوجيه غير المباشر من قبيل “ما بال أقوام” والتعريض بالتصرف الصحيح. وعلى النقيض من ذلك كله وفي أقصى اليسار؛ تجد قلة من الآباء قد ترك أبناءه بلا توعية أو توجيه، وتركهم غرقى في لجج الفضاء الواسع بلا قيود، فمن الشارع والأصدقاء يتلقون التوجيهات ويأخذون الخبرات دون تنقيح أو تصحيح؛ مما قد يعرضهم للانغماس في الشبهات والشهوات إلا من عصمه الله. همسة: قديماً قلت: لو أحصينا كمية النقد والأوامر التي نوجهها لأبنائنا لأشفقنا عليهم.