يحدث أن تسمع عبارات قبل موعد نومك، ثم لا يجد النوم إلى جفنيك بعدها سبيلاً، ولا إلى رأسك طريقاً، فتمضي بقية ليلتك وحالك كحال إيليا أبو ماضي: لا يلتقي جفناي إلا خلسة فكأن بينهما قديم عداء كان هذا في أول ليلة من ليالي العام الهجري الجديد 1440ه، خطر لي أن أهاتف إحدى الصديقات وكانت من المكالمات القليلة التي تتحدث هي بينما قلبي ينصت: (عقد من الزمان مر، مر وها نحن يا هند أمام عقد جديد، حينما أفكر بهذا أشعر برهبة شديدة، رهبة تبغتني وأنا أفكر في حصاد العقد الماضي، ورهبة أخرى تعبث بي وهي تذكرني بما قد ينتظرنا في هذا العقد، لكني أعاود هدأت نفسي وأنا أذكرها ببداية هذا العام 1439ه الموجعة، وكيف اختال الألم فرصة والنقمة نعمة، فقدان النعم يا هند هو وحده ما يجعلنا نستشعرها، نستشعرها كما يجب، ونفهمها كما ينبغي، حتى إذا ما أعادها الله لنا عرفنا قيمتها وقدرناها حق قدرها). تسترسل مُحدثتي في كلامها وأسترسل أنا في أفكاري، وبالكاد أنطق ما يكفي لإنهاء المكالمة، لأسترجع تجربتي الأخيرة واستشف منها العبر، فللتو انقضت ثلاثة أشهر قضيتها في مشروع تاريخي بديع ترك في قلبي مئات التساؤلات عن سيرنا في هذه الحياة، تساؤلات عن أماكن ضجت بساكنيها وكانت منطلق لأمجاد وبطولات، ثم باتت خالية مهجورة لا تسمع لأحد فيها ركزاً، عن رجال ونساء عظماء شغلوا الصحافة العالمية وامتلأت بذكرهم بطون الكتب وأرفف المكتبات، فبقي ذكرهم واختفى تاريخ وفاتهم مصطحباً معه رفاتهم، عن إعمار الأرض التراكمي في مكان واحد من أناس لا يعرف بعضهم بعضاً، يضع أحدهم بذرة فيأتي الآخر ليسقيها، ويضع آخر لبنة فيأتي من يزيدها ويبنيها، عن الرحيل الأخير، عن سؤال الخلود الكبير: حينما تختفي الأصوات وتتلاشى الأجساد، ماذا سيبقى؟