"أبي كان يخطف الناس ويقتلهم. أخي يقول إنه رأى أبي يتحول في الحرب من شخص يعرفه الى شخص لا يعرفه. هذا أخي الكبير. أخي الصغير لم أعرفه، أعرف صورته، أعرف وجهه، يشبهني في الصور كان يشبهني أكثر مما يشبه أخي الكبير. أسمّيه أخي الصغير وكنّا كلّنا في البيت نسمّيه في رؤوسنا نسمّيه، وحتى من دون أن نذكره ونحن نحكي، كانت صوره تملأ البيت ماذا كنت أقول؟ أسمّيه أخي الصغير ولم يكن أخي الصغير ولكنه الصغير لأنه ظلّ صغيراً، لأنه لم يكبر، لأنهم قتلوه وهو صغير. كم مرة رأيت أخواتي ساكتات في الصالون كان الصالون غرفة البيت الآمنة والملجأ ساعة القصف كأنهن في جنازة، يتوزعن على الكنبة الطويلة ذات الغطاء المخمل الزيتي، وينظرن الى صورته المكبرة المعلقة على الحائط، وعلى زاوية الصورة الشريط الأسود؟ كم مرة رأيت أختي الكبيرة تلتفت دامعة وتنظر اليّ أدخل حاملاً سندويشة - كل الوقت آكل سندويشات. يروق القصف عند الغروب فتركض أمي الى المطبخ، تنبه عليّ ألا ألحقها الى المطبخ لكنني ألحقها، أمي تلفّ سندويشات مرتديلا وخيار وأنا آكلها - أذكر أختي الآن كأن هذه السنوات كلها لم تمرّ، مرّت ولم تمرّ، أذكرها الآن تلتفت بشعرها الأسود الذي يؤطر وجهها الناصع البياض وتنظر اليّ من تحت رموشها الطويلة ثم ترفع عينيها وتنظر الى الصورة... أذكر البلل على الرموش، لا أنسى تلك الصورة، لم أكن أعرف عندئذ - وكيف أعرف؟ - أنها مثل أخواتي جميعاً لا تنظر الى وجهي إلا وتشعر بقلبها يتقطع، ينفصل الى قطعتين... الى هذه اللحظة لا أنسى ملامح وجهها وكيف تتبدل الملامح، الحب والكره والحيرة والخوف والغضب، ملامح لا أفهم كيف ترتسم على الوجه ثم تتبدد وتحل مكانها ملامح أخرى. كيف يتبدل الوجه في رمشة عين؟ الغيوم لا تتراكض في السماء بهذه السرعة... ماذا كانت تشعر وهي تنظر اليّ ثم الى الصورة؟ أخي الكبير كان مرات يدفعني في صدري ويزيحني من دربه، نلتقي في الممر، بين الصالون والمطبخ، وأنظر اليه وأراه ينظر اليّ نظرة غريبة: كأنه لا يطيق وجهي. يكشر عن أسنانه مثل ذئب وانا لا أفهم... وقت طويل مرّ وحتى الآن لا أدري كيف أحكي قصتي. كل هذا صعب. كل هذه السنوات مرت وما زلت لا أستطيع، ما زلت أعجز. كأن الحكي يسدّ زلعومي. أشعر بالكلمات وهي تصعد من بطني، من قلبي، كأن الوحل يخرج مني وأنا أحكي. لكنه ليس وحلاً. من أقدم ذكرياتي في بيت الاشرفية هذه الذكرى. لعلها من الأيام الأخيرة في"حرب السنتين"، لست متأكداً متى. لكنها في تلك الفترة. هذا أعرفه بالتأكيد، في الفترة الأخيرة في"حرب السنتين"، ليس في 1975، هذا ثابت، لكن في ال 76 لأنني في بداية ال 76 كنت طريح الفراش، مريضاً محموماً، أتقلب بين الحياة والموت، ولا أفتح فمي، ولا أنطق كلمة. نجوت وكتبت لي حياة جديدة. ما أذكره من ذلك الوقت - وقت المرض - غامض وغريب وغير ثابت. سأتحدث عن هذا لاحقاً: كل ذكرياتي من تلك الفترة الأولى متشابكة ولا أثق فيها، لا أدري هل هي ذكريات حقيقية أم ذكريات متخيلة، تتشابك بالمنامات وتتشابك بما سمعته بعد ذلك من أخواتي وأخي الكبير وأمي أبي لم يكن يحكي كثيراً. أقدم ذكرياتي - التي أعرف انها تخصني وأنها حقيقية ولم يخترعها أحد ولم أخترعها أنا أيضاً - أقدم ذكرياتي من بيت الاشرفية هذه الذكرى: أبي يحرق ثياباً ودفاتر في الجلّ وراء البيت. أذكر النار والعيدان والموقد المعمول من حجارة كبيرة. أذكر النار المشتعلة خارج الموقد على الأرض، على التراب، حيث أرى أمي تضع قدر الغسيل كانت الكهرباء تنقطع كثيراً، وكنت أرى أمي مع أخواتي يغسلن الغسيل باليد تحت الخوخة، أذكر أبي، قاتم الوجه، لا يشبه أبي، أذكر وجهه الملبد بالغيوم وهو يُخرج أشياء لا أعرف ماذا تكون من كيس جنفيص عميق ويرميها الى النار. أذكر ألسنة اللهب تقفز وتلحس جفنيه وشعر رأسه. كان يتحرك حول النار، كانت حركته بطيئة، وأنا جامد في الداخل، جنب طاولة المطبخ، أنظر عبر الباب المفتوح ولا أتنفس. ما زلت حتى هذه اللحظة أذكر خوفي. لم أكن أفهم ماذا يحدث. في المقابل عندي ذكرى أخرى من تلك الفترة، ذكرى أحبها وأحبّ أن استرجعها دائماًَ: نحن كلّنا في غرفة القعود - القصف متوقف منذ أيام، ربما منذ أسابيع، لا أقدر أن أحدد، لكن الشعور بالأمان شبه كامل، كأننا لسنا في فترة وقف اطلاق نار مهددة أن تخرق في أي لحظة، فلا أحد كان يصدق هذا ال"وقف اطلاق نار"... لا، كأننا فعلاً في زمن سلم، مع أن الحرب لم تكن انتهت،"حرب السنتين"كانت لا تزال دائرة، ومع هذا كنا في تلك الجلسة نجلس كأن الحرب لا تجري، كأن الحرب لم تحدث كلنا في غرفة القعود، والطاولة الخشب المستديرة القابلة للطيّ، الطاولة بيننا، وأمي تسكب الكشك الساخن في الصحون ونحن كلّنا نتحلق حول الطاولة. أبي يقطع الخبز ويوزعه علينا، أذكر يديه الكبيرتين والشعر على عقد الأصابع... أخي يتناول منه الارغفة المقطوعة ويفتح الارغفة ويضع خبزاً بين صحنه وصحن أختي الصغرى دائماً تجلس الى يمينه، احدى اخواتي تتضاحك وهي ترى هذه الحركة، يقاسم اختي الصغرى الخبز لأنها لا تأكل الا قليلاً. نخاف عليها من فقر الدم، لا تأكل شيئاً. تحب الحليب لكن لا تحب الأكل. هذا كله جزء من الذكرى: عندما أتذكر قعدتنا في ذلك الصباح البعيد، نأكل الكشك الساخن وننظر الى البخار يرتفع من الصحون التي تفرغ سريعاً، أتذكر تفاصيل لا تحصى عن أخواتي جميعاً وعن أخي وعن أبي وعن أمي. أتذكر مثلاً السكين في يد أختي الكبيرة وهي تقشر البصل وتقطع كل بصلة الى أربع قطع وتوزع القطع. أذكر سلّة البصل والقشر يتجمع في السلة. بعد سنوات سأرى منامات تحيرني: أرى الجلسة ذاتها لكنني أرى وجوهاً أخرى. أكثر من ذلك: أرى وجاقاً كبيراً يتوسط الغرفة وعلى سطح الوجاق أرى شرائح البصل البيضاء يتغير لونها الى الأسود وهي تشوى. أرى أيضاً أرغفة خبز تتحمص جنب قطع البصل. المشهد كله يتغير: هذا ليس بيت الاشرفية! هذا بيت آخر! وأرى وجوهاً غريبة وليست غريبة، من هؤلاء؟ ماذا تعني هذه الذكرى؟ هذا - في ذلك الزمن الأول - كان يعذبني كثيراً. يعذبني؟ هذه الكلمة لا تقول ما أريد قوله. كنت أحتار ولا أعرف لماذا تتمسك بي هذه الحيرة: لا أفهم لماذا أهتم بهذه المنامات غير المفهومة أصلاً؟ هناك ذكرى أخرى من تلك الفترة، وهذه لا تمتزج بذكرى أخرى، خالية من الشوائب، وعزيزة أيضاً: أمي في المطبخ تصنع لنا حلويات. لعله عيد من الأعياد، وهي تعجن وتعد أقراص المعمول. أذكر التمر على الطاولة، وأذكر أختي الكبيرة تدق الفستق الحلبي. لكن أكثر ما أذكره الطحين على ثوب أمي، ورائحة السمن وماء الزهر، والمكان الدافئ - الفرن يملأ المكان حرارة - وأمي عندما تنظر اليّ تبدو كأنها نائمة، كأنها ناعسة، كأنها تصنع لنا المعمول وهي نائمة، كأنها مخدرة، كأنها تتحرك في منام، كأن أختي الكبيرة أيضاً تتحرك في منام وهي تمزج المادة الخضراء بالسمنة أو بالزبدة لا أعلم... الذكرى بعيدة وأحياناً يخيل اليّ أن هذه هي أقدم ذكرياتي، وليست تلك الذكرى الأخرى - أبي يحرق اشياء. لا أعرف. لعل هذا غير مهم في النهاية. حاولت كثيراً - ستعرف ان هذا مهم في حياتي - حاولت كثيراً ان أحدد عمر هذه الذكريات الأولى وأن ارتبها منظمة، لعلني أفهم، لعلني أصل الى البداية... لكن هذا صعب، شديد الصعوبة، ثم أن الذكريات تخدع. كنت احياناً أتذكر شجرة الخوخ مزهرة، الشجرة وراء البيت، غير بعيد من الموقدة. في مرات أخرى أراها سوداء، عارية من الورق تماماً، يابسة، اذا لمسها اللهب من النار التي أشعلها أبي تشرقط وتحترق وتتحول رماداً في لحظة. الذكريات تخدع، وفي حالتي أنا تخدع مرتين. تخدع مرتين. فأنا لست أنا. ذكرى واحدة بعد ثم أكمل: أبي يحملني على كتفيه ويخوض نهراً. أنا اتمسك برأسه لئلا اقع، وأخي الكبير يضحك وهو يساعد اخواتي على عبور الماء، وأمي في الجهة الأخرى تنتظرنا وهي تضحك حملها أبي أولاً. حملها على ظهره، ولا أنسى الى الآن ضحكاتها وضحكات أخواتي وهو يخوض في المياه الخضراء ويختفي لحظة تحت ظلال الشجر الأخضر ثم يظهر من جديد في الجانب الآخر، أظن هذا نهر ابراهيم، اظن أننا كنا نقضي النهار هناك. مرات كنا نصعد الى مار شربل، ومرات كنا نذهب الى نهر ابراهيم. نأخذ سلال الطعام ونذهب ونقضي النهار كله فوق ولا نرجع الى الاشرفية الا عندما تغيب الشمس. أذكر مياه النهر تقترب من وجهي ثم تبتعد، بينما أبي يخطو بين الصخور والماء يغمر ساقيه ويصل الى قماش البنطلون الذي طواه الى فوق الركبة، أذكر الرائحة - رائحة التبغ والقميص والعرق - رائحته. وأذكر احدى اخواتي تناديني فأدور بجسمي راكباً على كتفيه وهو يمسك بقدمي - كفاه كبيرتان ويمسك بقدمي ويضحك - أدور وانظر الى أختي التي تناديني: أراها واقفة عند السيارة البيجو الزرقاء بيجو 504، كانت جديدة في ذلك الحين، كنت لا ترى الا البيجو البيضاء ال 404 القديمة حتى ذلك الوقت في شوارع بيروت"ال 504 الزرقاء كانت جديدة. لا أستطيع ان ارتاب بهذه الذكريات لأنها جزء مني. هذا كله أنا. ولكن... اسمع: في الحرب، في ذلك الزمن الاول، كان العالم غير مفهوم. لعل السبب سنّي، ليس الحرب، بل سنواتي القليلة: كنت صغيراً وكنت أخاف كثيراً. بلى، هذا اذكره، أذكره دائماً، خوفي. في البدء كانت الأشياء، كل الاشياء، غير مفهومة.في الكنيسة، أثناء القداديس، أذكر أمي تضع يداً حارة على رأسي، وأذكر اليد ترتجف. أسمعها تبكي ولا أعرف لماذا. عيناي معلقتان بالرجل الواقف عند المذبح، يحمل مبخرة ثقيلة كبيرة بسلاسل، لونها كالذهب، ويؤرجحها أمامه، أمام صدره الكبير المغطى بالثوب الثمين القاتم... التراتيل تملأ فضاء الكنيسة، فضاء رحب مملوء بخوراً، وأمي يدها على رأسي كأنها تتلمس عظام جمجمتي، اليد على رأسي ثقيلة وحارة وترجف، لماذا ترجف يدها هكذا، كأن حيواناً صغير الحجم يبكي قاعداً على رأسي. ما بها أمي؟ مرات يخيل اليّ أن الوجوه تلتفت جارات أعرفهن، جارات أراهن وأعرف اسماءهن من كلام أخواتي، ولكن أيضاً نساء لا أعرفهن، لسن من هذا الحي، في القداديس أرى وجوهاً كثيرة غريبة الوجوه تلتفت وتحدق اليّ، لا أكون متأكداً، لعلها تحدق الى أمي، لعل العيون تنظر الى ثيابي النظيفة المكوية، لا أدري. لا أرى الوجوه تلبس هذه الاقنعة الغامضة وهي تنظر الى اخواتي. كان أخي الكبير يأتي معنا في البداية: في ذلك الوقت لم أكن أرى الوجوه تتغير هكذا اذا نظرت اليه. هل أنا واهم؟ أرجع الى البيت وأنا اشعر بالضعف. كأن شيئاً خرج مني، كأن القوة خرجت من جسمي تحت تلك النظرات. كنت صغيراً، لم اكن افكر هكذا، لكنني الآن عندما اتذكر ذلك الصغير الذي كان أنا أتذكره هكذا. أعرفه الآن أكثر مما كان يعرف نفسه. أعرفه الآن. أذكره وحده في الصالون يرفع عينيه الى الصورة المعلقة. ينظر الى الأخ الصغير ويرى الأخيلة على زجاج الصورة. الصورة المكبّرة في اطار من الخشب الأسود، وفي الزاوية العالية الشريط الاسود. لا يصعد على الكنبة ولا يرفع يده ولا يلمس اطار الصورة. أخته الصغرى تفعل ذلك مرات ولا يفهم لماذا تفعل ذلك: تلمس الاطار المجدول أم تحاول لمس الوجه الباسم تحت الزجاج؟ أخته الكبيرة تمسح الزجاج بقماشة مبلولة. تمسحها على مهل، طالما رآها دامعة وهي تمسح الصورة. الآن لا أتذكرها تمسح الصورة الا دامعة. مع أن هذا غير منطقي، أعرف أن هذا غير صحيح، اعرف انها مسحت الغبار عن صورة الأخ الصغير مرات لا تحصى من دون ان تدمع عينها. يمضي الوقت والواحد يتغير، والاشياء تصير جزءاً من طبيعة الاشياء، ولا تفكر وهي تمسح زجاج هذه الصورة في ما تفعله، وتتابع مسح الغبار عن مسند الكنبة الخشبي وعن الطاولة الصغيرة حيث يضع أبوها المنفضة الحجر. يمضي الوقت ويتغير الواحد؟ ايليا أخي الكبير كان يقول لي إن أبي تغير من شخص الى شخص آخر في يوم وليلة."بيوم وليلة"، عبارة أخي لا أنساها لأنها بقيت كالعلامة في رأسي، سأسترجعها كثيراً في ساعات مختلفة من حياتي، وسأسترجعها كثيراً لأنني سأفكر فيما بعد أنني أنا ايضاً، ومثله، ومثل أبي، تغيرت في يوم وليلة. ايليا لم يقل أن أبي تحول من انسان الى وحش، غيره قالوا ذلك. ايليا أخبرني لاحقاً أشياء فظيعة كثيرة. هو أيضاً ايليا تغيّر وهو يسمع تلك الاشياء. ناس يعرفوننا وعندهم اقارب في الحي، ناس يترددون على حيّنا وعندهم دائماً دعسة رِجل في السيوفي رأوه على جسر الباشا. قالوا انهم كانوا مارين من هناك وعندما رأوه لم يصدقوا انه هو. لكنه هو. كان يُخرج الناس من السيارات ويضربهم، يقوّص عليهم ويرميهم عن الجسر. * ايليا كان يخبرني تلك الاشياء من دون أن يرتجف صوته. كان الوقت قد مرّ عليها. لكنه وهو يخبرني كنت أشعر ان الوقت لم يمرّ: هل صحيح ان السنوات مرّت؟ كنّا في"مستشفى رزق"، الوقت ليل والمكان ساكن. أبي في غرفة العمليات، وأخي يحكي. أنا لا أعرف هل سأرى ابي حيّاً مرة أخرى، وأخي يتذكره"وحشاًَ"على جسر الباشا وفي تل الزعتر وفي الكرنتينا! أخواتي ذهبن، خرجن من هنا على أن يرجعن بعد ساعة العملية طويلة، قال الطبيب، وايليا بدأ يحكي. لا أدري ماذا حدث له، لا أعرف ماذا فكرت وأنا اسمع كلماته، أعرف أن المكان تغيّر، اختفت مقاعد الانتظار وهو يحكي، اختفت البوابة المفتوحة على الشرفة والاشجار القديمة، اختفى التمثال في نهاية الممر، اختفت الحيطان البيضاء، اختفت الحياة التي أعرفها. لم أعد أعرف اين أنا. المفروض أنني في قاعة الانتظار، المفروض انه الليل والمرضى ينامون على أسرة متشابهة في غرف متشابهة. المفروض أن هذه الشرفة تطلّ على اشجار عالية سرو؟ شربين؟ في باحة تتوسط المستشفى في الاشرفية التي أعرفها كما أعرف خطوط يدي. المفروض اننا هنا، أنا وأخي، وبعد قليل تعود أخواتي. المفروض اننا هنا ننتظر أبي، ننتظر خروج أبي من غرفة العناية الفائقة. لا؟ ما زال تحت السكين؟ تحت يد الجراح الذي تعرفه أختي، وتعرف زوجته وتعرف بيته في بناية بيرتي وتعرف أنه امهر جرّاح لا في الاشرفية فقط، لا في"الشرقية"فقط، لا في بيروت فقط، ولكن في لبنان كله! المفروض انها قاعة انتظار هذه رائحة المطهرات التي أعرفها - وأنني مع أخي انتظر خروج أبي من العملية الصعبة: يفتحون رأس أبي الآن، يفتحون الرأس في الداخل الآن، تحت المصابيح القوية الضوء، ويستأصلون الورم بالسكاكين الرفيعة... هذا ليس وقتك يا ايليا، ليس وقت ذكرياتك... لماذا الآن يحكي؟ لماذا في هذه الساعة يفتح فمه والسد ينكسر والوحل يتدفق وأنا أغرق في هذا المستنقع! لا أحد كان يحكي أمامي. طالما اردت أن يخبروني عن أخي الصغير. لا أحد كان يحكي. زمن طويل انتظرت، زمن طويل، وفي أصعب ساعة اخبروني! لا أحد كان يجيب على اسئلتي. أذكر عندما كسرت أختي نجوى ساقها، كسرت ساقها أثناء"حرب المئة يوم"، هذه بعد"حرب السنتين"، في"حرب المئة يوم"قُصفت الاشرفية حتى لم يبقَ في نوافذها لوح زجاج واحد، البيت يرتج بالقصف، وأختي تمردت على أمي ابي لم يكن في البيت تمردت عليها وخرجت من الملجأ: خرجت من الصالون المحصن بموقعه الطبيعي وبأكياس الرمل التي تسد نافذته، خرجت من الحصن ومضت الى المطبخ. كانت جائعة. قالت انها ستذهب وتأتي بالخبز وعلبة الجبنة. كانت تكذب. ارادت الصعود الى التتخيتة كي تجلب حلوى: مرطبان من الدراق المكبوس بالقطر. في وقت الخطر كانت نفسها تطلب دائماً السكر. وقعت عن السلم وهي تصعد الى التتخيتة. كسرت ساقها. لازمتها في فترة النقاهة. كانت طريحة الفراش، تتألم. ترسلني لأجلب لها شيئاً فاذهب بسرعة وأرجع بسرعة. في تلك الفترة صارت تلمس وجهي بأصابعها، تتلمس وجهي كأنني معمول من زجاج وتقول انها تحبني، انها تحبني كثيراً. كنت صغيراً ولا أفهم. ما زلت لا افهم. تلمس وجهي وتقول"يا حبيبي يا مارون، أنا أحبك كثيراً يا مارون". كنت اقول لها"وأنا ايضاً احبك يا اختي نجوى". ومرات تصير تبكي وهي تقول انها تحبني وأنا لا أفهم لماذا تبكي. شيء ما في أعماقي، شيء غامض وسرّي وغير قابل للمس، شيء ما كان يقول لي ان هذا كله على علاقة بأخي الميت. لكن ماذا ولماذا، لم أكن أقدر أن أعرف... كي أخبرك قصتي عليّ أن أبدأ من أخي الصغير. خطفوه وقتلوه. كان ولداً لم يتجاوز العاشرة، خطفوه وقتلوه ورموه ممزق الثياب على الطريق الصاعدة من"المتحف"- منطقة خط التماس - الى أوتيل ديو الأشرفية. أحد عناصر الكتائب، واحد من أقارب زوج خالتي، عرف الجثة الصغيرة المدماة واتصل بأبي. حتى من دون هذا الرجل كان الخبر سيصل. أبي وزع صورة أخي الصغير على المستشفيات والمخافر، وزعها على مراكز الكتائب والأحرار، وزعها على مراكز الدفاع المدني والرابطة، وزعها على الجرايد، حتى على الدكاكين ومحلات الفليبرز وزعها. إيليا كان يأخذ الصور ويدور على الدكاكين. وطبعوا الصورة على ملصق وإيليا ذهب مع أبي وأولاد خالي ولم يتركوا حائطاً في الأشرفية ولم يتركوا حائطاً في منطقة التماس إلا وألصقوا الصورة. وتحت الصورة الاسم والعنوان ورقم الهاتف. ناس اتصلوا وطلبوا فدية. بان بعد ذلك أن لا علاقة لهم بالخطف، انهم يتاجرون... هذه كلها تفاصيل بلا قيمة، المهم النهاية. تلفنوا لأبي من مركز الكتائب وتلفنوا لأبي من أوتيل ديو وقالوا له ان يأتي ويتعرف على ابنه. إيليا رآه يخبط رأسه ويقفز ويترك البيت وهو في المشاية. منذ تلك اللحظة لم يعد هو، قال إيليا. إيليا لحق به. لم يذهب وحده. جيران من الحي ذهبوا معه. جارنا الطبيب فيليب بردويل - الذي سيعالجني من جرح الرصاصة بعد ذلك - كان أيضاً. إيليا كان يحبّ الطبيب لأنه كان يهتم بأمي: لولا أدوية ابن بردويل كانت أمي ماتت. أكثر من مرة أمسكوا بها تحاول أن تقفز عن السطح. في إحدى الليالي غافلتهم وفرّت من البيت. عثروا عليها تلطم رأسها بالحائط جنب مطعم الفول والحمص، عند الزاوية. المطعم تتسع الطريق أمامه"هناك كان الأولاد يتجمعون ويلعبون بالطابة. أحياناً تطير الطابة وتقع في الحديقة المسوّرة أمام بيت المختار. زوجة المختار تصيح وأخي الصغير يضحك. قالت لأمي انه عفريت. كل أهل الحي كانوا يقولون له ذلك:"العفريت الصغير". ويقولون لأبي. ويقولون لجدي عندما يأتي الى بيتنا. كان اسمه"العفريت الصغير". يكسر الشبابيك بالطابة لكنهم يحبّونه. أبيض، أشقر، سريع، مملوء ضحكاً. خطفوه وقتلوه ورموه مقطع الثياب دامي الجثة على الطريق الصاعدة من المتحف الى أوتيل ديو. عناصر الربط نزلوا مع الصليب الأحمر وحملوا الجثث الى براد أوتيل ديو! لم يكن وحده. سبعة أولاد صغار"جثث صغيرة متخشبة اتسعت كلها في عربة واحدة. إيليا رأى أبي حاملاً الجسم الصغير، واقفاً في الممر الطويل الأبيض، يميل وكتفه يرتطم بالحائط. لم يبكِ. قال إنه لم يبكِ. هكذا قال إيليا. قال إنه لا يقدر أن ينسى حركة جسمه: كيف يميل على جهة واحدة ويرتطم بالحائط ثم يستقيم من جديد. مثل عمود يقع، يميل ويقع، ثم يرجع الى مكانه. إيليا قال إن أبي كان بلا وجه عندئذٍ، نظر إليه ولم يرَ وجهاً."لم يكن يبكي"، أكثر من مرة كرّر إيليا هذه الكلمات ونحن نقعد في صالة الانتظار في"مستشفى رزق"تلك الليلة: ننتظر خروج أبي من غرفة العمليات وإيليا يحكي ويحكي ويحكي. وأنا أفكر أنني في جهنم. قال إن أبي أخذ الجثة الصغيرة بين يديه وخرج من"أوتيل ديو". ناس من المستشفى وناس من الحيّ حاولوا منعه. لم يقدر أحد أن يصدّه. أخذ جثة أخي الصغير ومشى من"أوتيل ديو"الى بيت أحد أقاربنا من آل اسطفان. هذا البيت كان يبعد مسافة قصيرة عن أوتيل ديو. وكان فارغاً. أبي معه المفتاح. أصحاب البيت في فرنسا وابي معه المفتاح، يأتي الى البيت مرة كل يومين أو ثلاثة ويحميه من السرقة ومن المهجرين. إيليا قال:"كان بلا وجه". وقال إنه رأى وجهه فقط عندما استدار وقال له أن يذهب الى البيت، أن يسبقه الى البيت. ناطور البناية كان يفتح البوابة، والمفاتيح الكثيرة تطرطق في فراغ الدرج، وصراخ الجيران يعلو ثم يموت فجأة. من أين تأتي هذه الأصوات؟ إيليا لم يرَ وجه أبي إلا عندما تكلم. قال له أن يسبقه الى البيت، جنب التخت على الكومودينة علبة الدواء، العلبة الخضراء، ثلاثة حبوب في كوب ماء،"ليس حبّة واحدة، ليس حبتين، ثلاث حبوب تضعها في الكوب لأمك ولا تخبرها، لن أتأخر". إيليا لم يقبل. ابن بردويل الطبيب سأل أبي ماذا يريد وتكلم معه. إيليا لم يسمع ماذا قال الطبيب ولم يسمع ماذا قال أبي. ذهب الطبيب مع الجيران وبقي إيليا مع أبي في بيت آل اسطفان الفارغ. بقي مع أبي ومع الجثة. داخل البيت رأى الأشياء ولم يرَها. في"مستشفى رزق"، بعد كل تلك السنوات، قال لي إنه الآن يتذكر كل ذلك كأنه يتذكر مناماً. لم يكن مناماً. بينما يحكي شعرت بالنفس يخرج من صدري فلا يرجع. رأيته هناك مع أبي وأخي الميت، يرى الأشياء ولا يراها في شقة فارغة في بناية شبه فارغة. رأيت البناية بنوافذها المحطمة تطلّ على خط التماس والجهة الأخرى ورصاص القناصة. رأيت النايلون المشدود على أطر النوافذ بدلاً من الزجاج. رأيت الجسم الصغير المقطع الثياب على طاولة السفرة. رأيت إيليا. كان وحده. كان مع أبي. لكنه كان وحده. قال أبي شيئاً. إيليا سمع الكلمات كأنها تصل من عالم آخر، من حياة أخرى. قال أبي إنه يريد أن يغسل أخي، يريد أن يغسل الدم عن الصبي قبل أن تراه أمه. إيليا قال إن الدم كان يابساً على الشعر"غسلوه بالصابون والماء الساخن. الناطور ساعد أيضاً. وكذلك زوجة الناطور. لكن أبي لم يقبل أن يلمس أخي أحد. كان يأخذ منهم المياه الساخنة ويغسل الصغير وحده. إيليا قال إن الجسم كان مثل الخشبة، كأنه قطعة خشب، كأنه تمثال وليس ولداً. كان في التاسعة، طوله 130 سنتمتراً، ويزن 24 كيلوغراماً. بعد الدفن لم تعد أمي تترك التخت. أنا لا أعرف شيئاً من ذلك الوقت، هذه كلها ذكريات إيليا. أمي لزمت الفراش، مخدرة، وأبي صار يختفي من البيت وعندما يرجع حاملاً السلاح يتجنب الجيران طريقه. رائحته تغيّرت. وشكل وجهه تغيّر. طالت ذقنه. وطال شعر رأسه. في تلك الفترة انتشرت القصص عن تل الزعتر والكرنتينا. انتظرْ لحظة. لا تظن انني سأخبرك قصصاً سمعت مثلها. كلنا عشنا في هذا البلد وكلنا عشنا قصصاً أو سمعنا قصصاً فظيعة. ما سأحكيه لا يشبه شيئاً عرفته أو سمعته. أعرف أن الناس هكذا. أعرف أن كل واحد يظن حياته فريدة ولا تشبه حياة أخرى. وأعرف أن كل حياة ثمينة وتختلف تماماً عن كل حياة أخرى. أعرف كل هذا. لكنني أقول لك: حياتي حقاً مختلفة. لن أخبرك قصصاً سمعت مثلها. 18 سنة مضت على انتهاء الحرب الأهلية والآن يكتبون في الجرايد أننا على باب حرب جديدة: من جديد سنقتل بعضنا. الجرايد تكتب هذا والناس يقولون هذا لكن أنا لا أصدق. لا أصدق لأننا تحاربنا 15 سنة وبعد 15 سنة علينا أن نرتاح، ربما بعد اربعين سنة أو خمسين نتحارب مرة أخرى، هكذا يقول إيليا."لا أنصح أحداً أن ينجب سلالة في هذا البلد"، هكذا يقول إيليا. لن أخبرك ما فعله أبي في الكرنتينا. ولا ما فعله أخي بعد ذلك. أبي ارتكب شناعات وأخي أيضاً. أخي أقل من أبي، وأخي اضطر أو على الأقل هو يقول إنه كان مضطراً. أبي لا يقول، أبي لم يحكِ أبداً عن تلك الفترة. وعندما حكى أخيراً أخبرني قصة واحدة ولم يخبرني قصة أخرى القصة التي تهمّني. كان يكره الكلام"أبي. كل ما أعرفه عن الكرنتينا عرفته من آخرين. الآن وأنا أقول لك هذا أرى البنايات أمامي البنايات قبل أن تُجرف وأرى صفاً من أشجار الصفصاف وأرى الطريق المبلولة. كان البرد في الجو. كانوا يفصلون العائلات، يأمرون الرجال بالتجمع تحت الدرج، ويأمرون النساء والأطفال بالخروج الى الطريق. قالوا إنهم سيأخذون الرجال للتحقيق. لكنهم رشّوهم بالرصاص تحت الدرج. لن أخبرك ما حدث بعد ذلك. أريد أن أخبرك القصة التي تهمّني". * فصل من رواية"الإعترافات"وتصدر قريباً عن دار الآداب والمركز الثقافي العربي بيروت - الدار البيضاء