أفاقت جنوب أفريقيا اليوم مستذكرة بدموع وصلوات وقلق أول رئيس أسود في تاريخ البلاد نلسون مانديلا الذي أمضى نحو ثلث حياته في معتقلات نظام الفصل العنصري، لكنه لم يتوانَ عن الصفح عن "جلاديه" وإنجاز مصالحة تاريخية جنّبت أمّة "قوس قزح" حرباً أهلية عرقية وألهمت العالم. وفاة مانديلا لم تشكّل مفاجأة في جنوب أفريقيا، لكنها أثارت قلقاً شعبياً من احتمال أن تُؤثر سلباً في المسيرة المتعثرة أصلاً للمصالحة، وسط اضطرابات اجتماعية جعلت من طموح مانديلا إلى أمّة موحدة، بعنصريها الأبيض والأسود، حلماً مبتوراً. علمت ابنتا مانديلا، زيندزي وزيناني، بنبأ وفاته أثناء حضورهما العرض الأول لفيلم عن حياته في لندن، عنوانه "السير الطويل نحو الحرية"، الذي دُعي إليه الأمير وليام وزوجته كيت. وأوردت صحيفة "ديلي ميرور" إن الابنتين أصرّتا، لدى إبلاغهما النبأ، على متابعة عرض الفيلم، مضيفة أن منتج الفيلم، أنانت سينغ، صعد إلى خشبة المسرح بعد نهاية الفيلم ليعلن نبأ وفاة مانديلا، وسط ذهول الحضور. وأشارت الصحيفة إلى أن الأمير وليام وزوجته كيت كانا غادرا صالة العرض قبل لحظات، بعد إبلاغهما نبأ وفاة مانديلا التي اعتبره الأمير وليام "شخصية ملهمة". وتوفي مانديلا عن 95 عاما، بعد إصابته بالتهاب رئوي متكرر، أوجب إدخاله مستشفى 4 مرات منذ ديسمبر 2012. ويُرجّح ارتباط مشكلاته الصحية بعواقب مرض السل الذي أُصيب به خلال احتجازه في جزيرة روبن آيلند حيث قضى 18 من 27 سنة قضاها في سجون نظام الفصل العنصري. وكان مانديلا، مع أعضاء بارزين آخرين في حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، يكسرون صخوراً في محجر، بين 8 و10 ساعات يومياً 5 أيام في الأسبوع. واعتبر حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" الحاكم أن البلاد خسرت "مثالاً عملاقاً للإنسانية والمساواة والعدل والسلام"، لافتاً إلى أن "حياة مانديلا تعطينا الشجاعة للمضي من أجل التنمية والتقدم نحو إنهاء الجوع والفقر". أما فريدريك دي كليرك، آخر رئيس أبيض لجنوب أفريقيا والذي أطلق مانديلا من السجن عام 1990 ثم تفاوض معه على نهاية نظام الفصل العنصري، فوصف الراحل بأنه كان "موحداً عظيماً ورجلاً فريداً جداً"، معتبراً أن تركيزه "على المصالحة كان أكبر أرث تركه"، إذ تفهّم مخاوف الأقلية البيضاء أثناء الانتقال إلى الديمقراطية. دي كليرك الذي تقاسم ومانديلا جائزة نوبل للسلام عام 1993، كان أحد نائبين للرئيس في حكومة الراحل بعد فوز "المؤتمر الوطني الأفريقي" في انتخابات 1994. من جانبه، أشار الأسقف الأنغليكاني ديزموند توتو -82 سنة، وأحد أبطال النضال ضد الفصل العنصري- إلى أن مانديلا علّمنا على مدى 24 سنة (منذ خروجه من السجن) كيف نعيش معاً ونؤمن في أنفسنا وفي جميع الآخرين. وأضاف: خرج من السجن شخصاً أعظم بكثير مما كان لدى دخوله، شخصاً يتحلى برحمة كبيرة حتى تجاه مضطهديه، تعلّم كيف يفهم هفوات البشر وضعفهم، وتابع: لنقدّم له هدية: جنوب أفريقيا متحدة. إلا أن بعض المراقبين رصد تخوف شريحة كبيرة من المواطنين -بعد غياب مانديلا- من تفاقم توتر عرقي واضطرابات عمالية دامية واحتجاجات متصاعدة على ضعف الخدمات والفقر والجريمة والبطالة وفضائح فساد تلاحق حكم زوما، ما يجعل جنوب أفريقيا، على رغم كونها أضخم اقتصاد في القارة السوداء، إحدى أكثر دول العالم افتقاراً إلى المساواة وبعيدة عن نموذج "أمّة قوس قزح" التي حلم بها مانديلا. مانديلا الذي خرج من السجن في 11 فبراير 1990، بات عام 1994 أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، في انتخابات تاريخية متعددة الأعراق، مطلقاً مصالحة وطنية. وقال لدى توليه منصبه: ندخل في عهد لبناء مجتمع يكون فيه جميع مواطني جنوب أفريقيا، السود والبيض على السواء، قادرين على السير برؤوس شامخة من دون أن يعتصر قلوبهم أي خوف، مطمئنين إلى حقهم الثابت بالكرامة الإنسانية أمة قوس قزح بسلام مع نفسها والعالم. أبى مانديلا أن يحكم أكثر من ولاية واحدة من 5 سنوات، وتقاعد عام 1999 مسلّماً السلطة إلى زعماء أكثر شباباً وأكثر تأهيلاً لإدارة اقتصاد حديث، ومكرساً وقته لمهمات وساطة في نزاعات، خصوصاً الحرب في بوروندي، ولمكافحة مرض الإيدز، لاسيّما بعد وفاة ابنه بالمرض عام 2005. ولد مانديلا في 18 يوليو 1918، وأسس الرابطة الشبابية في "المؤتمر الوطني الأفريقي"، ثم تسلّم قيادة الحزب في مواجهة نظام أرسى الفصل العنصري عام 1948. وبعد حظر الحزب عام 1960، انتقل إلى العمل السري مؤسساً جناحاً مسلحاً للحزب عام 1961 صُنِّف إرهابياً في الغرب، ثم خضع لتدريبات عسكرية في الجزائر وأثيوبيا. اعتُقل عام 1962 وحُكم عليه عام 1964 بالسجن المؤبد، خلال ما عُرف ب"محاكمة ريفونيا" حيث ألقى كلمة تحوّلت بياناً رسمياً لحركة مناهضة نظام الفصل العنصري، قال فيها: طيلة حياتي، كرّست نفسي لهذا الكفاح للشعب الأفريقي، حاربت سيطرة البيض وسيطرة السود، دافعت عن مُثل المجتمع الديمقراطي والحر، هذه مُثل أنا مستعد للموت في سبيلها. وعام 2004، أعلن مانديلا أنه سيخفف نشاطاته العامة ليتمتع ب"حياة أكثر هدوءاً" مع عائلته وأصدقائه، علماً أنه تزوّج عام 1998 من غراسا ماشيل، أرملة الرئيس الموزمبيقي سامورا ماشيل، إثر طلاقه من ويني ماديكيزيلا، ولديه ثلاث بنات.