أجبرت حياة البداوة المرأة القروية على أداء مهام الرجال بفعل ظروف المكان والمجتمع، فهي تمتلك الشجاعة والإقدام والإصرار وعدم المبالاة، حيث إنها كانت ومازالت تقوم بقيادة السيارة والاعتماد على نفسها في توفير احتياجاتها وخدمة أهلها، وتكثر هذه الظاهرة في بوادي عسير، كخميس البحر، ومحايل، وتثليث، والحفياء، وغيرها، وبين التأييد والرفض الذي صاحب قضية قيادة البدويات للسيارات. قامت «الشرق» بجولة على تلك القرى والتقتهن وأولياء أمورهن وعدداً من الأهالي، ووقفت على الظروف الإنسانية التي دعتهن إلى الإصرار على قيادة السيارات، كما التقت عدداً من المختصين لمناقشة هذه الظاهرة في الأسطر التالية: ضرورة قصوى يقول «ب. ع .ق (والد إحدى الفتيات اللاتي يقدن السيارات)» إن قيادة المرأة للسيارة في تلك المناطق النائية والبعيدة عن معظم الخدمات ضرورة قصوى، وأنا أعمد لتعليم بناتي قيادة السيارة حتى يكن متعلمات لنفعنا ونفع أنفسهن في حال حدث مكروه – لا سمح الله -. فيما رفض أبو ريان قيادة المرأة، وقال «لا أسمح بقيادتها للسيارة حتى إن كان السبب بيئتي التي أعيش بها، لأن المرأة كائن ضعيف غير قادر على تحمل مسؤولية التنقل بالسيارة، فضلاً على أنها ستعرض نفسها للكثير من المضايقات، فلا يختلف شباب المجتمع البدوي عن الشباب في المدن، فالجميع لديهم غرائز، ويضعفون أمام شهواتهم، بل إن المجتمع في مثل هذه البيئات أقل ثقافة ووعياً وفي معزل تام عن جميع وسائل الأمان التي قد تلجأ لها المرأة في حال تعرضت للتحرش أو الأذى..». سائقة حافلة وقالت صالحة .ع «أعيش مع أسرتي المكونة من الأب والأم وخمس من الإناث في منطقة الحفياء، وحالتنا المادية صعبة جداً، وفي يوم من الأيام خطرت ببال والدي فكرة نقل الطالبات في تلك القرية من منازلهن للمدارس، وبالفعل عرض والدي تلك الفكرة على رجال القرية، فوافقوا على ذلك لثقتهم به وعلمهم بمدى حفاظه على بناتهم، وأيضاً رغبة منهم في مساعدته على توفير مصدر رزق له ولعائلته. وتضيف «فنظرت لحالته الصحية وكبر سنه، فطلبت منه أن أقوم أنا بذلك العمل نيابة عنه لمهارتي في قيادة السيارة، فقد علمني منذ صغري وبعد محاولات عدة مني لإقناعه وافق، وقمت بالتنكر باللبس الرجالي والتلثم وظللت على ذلك فترة من الزمن لم يكشف أمرنا، ولكن شاء الله ذات يوم أن أضع الحناء من باب التزين والتجمل الذي هو من صفات المرأة فلاحظ شباب قريتي ذلك وتجمعوا، فاعترفت بما دفعني لذلك، وفي اليوم التالي أتى بعض من رجال القرية لوالدي وأعتقدنا أنهم سيدينونه على ذلك، ولكن حدث العكس فقد أسعدهم الأمر. «وتذكر صالحة أنها مازالت تقوم بنقل الطالبات، ولكن بعباءتها وحجابها كاملاً، وفي حدود قريتها وأنها تتقاضى على ذلك دخلاً شهرياً قدره 4000 ريال. كما أكدت أن عدم وجود طريق معبد، وعدم وجود مرور، ودوائر حكومية في تلك القرية سهّل أمر تنقلها وقيادتها للسيارة بحرية تامه. حالات طارئة أما أم روز، فتقول أجيد قيادة السيارة بمهارة، وزوجي هو مَنْ علمني قيادتها، وخلال فترة تعليمي كان يذهب بي إلى منطقة بعيدة عن أعين الناس، فهو مؤمن بأهمية تعلم المرأة للقيادة تحسباً للحالات الطارئة. وتضيف «في مرة من المرات ذهبنا في رحلة للتنزه فقط أنا وزوجي، وفي أثناء ما كان يجمع الحطب للشواء سقطت على قدمه صخرة ولم يستطع التحرك، وأصبح يتطوى ألماً فخشيت على نفسي وعليه فحملته متكئاً على كتفي إلى أن أركبته السيارة، وقدت السيارة إلى أن خرجنا على الشارع العام ليسعفنا أحد المارة الذي أكمل بنا الطريق حتى أوصلنا للمستشفى. أما زهرة .س، فتقول «زوجي مريض بالسكر وخلال المشاوير الطويلة يتعرض لانخفاض وإغماء، وقد حصل ذلك في يوم من الأيام في الشارع العام، وقمت بتوصيله للمستشفى بفضل معرفتي بالقيادة. وتضيف «تعلمت قيادة السيارة بسبب بيئتي التي تتطلب أحياناً الذهاب لجلب الماء، فأنا أيضاً أقود ناقلة المياه، وأجلب الماء من البئر للمنزل». معاكسة الشباب وتؤكد أم علي أن المشكلة ليست في المرأة التي تقود السيارة، بل في الشاب الذي لن يتركها تسير في طريقها بأمان دون أن يعاكسها ويؤذيها أو يقترب منها، وقالت «نحن في مجتمع ينكر علينا أمور تقتضيها الحاجة، ويجعل المرأة هي المشكلة لكل مشكلة، نحن لا ذنب لنا إن أجبرنا على أمور كهذه، كل منزل لا يخلو من مشكلات جعلت الفتاة حبيسة لأربعة، أو أن يكون رب الأسرة ذو الخمسين أو الستين عاماً وحيداً ليس حوله سوى إناث، ولا يستطيع إحضار سائق ولا يوجد مَنْ يقوم بتلك المهمة. ظروف محيطة ويذكر الدكتور محمد السعيدي «دكتوراه في أصول الفقه بجامعة أم القرى أن قيادة السيارة سواء أكانت للرجل أم المرأة الأصل فيها الإباحة، ثم تتعلق بها الأحكام الشرعية وفقاً لما يُحيط بها من ظروف، فتكون حراماً أو مكروهة أو مستحبة أو واجبة لا لذاتها، بل للظروف المحيطة بها، وهذا الأمر باب كبير من أبواب الفقه، له أمثلة كثيرة في حياة الناس قديماً وحديثاً، وينطبق ذلك على قيادة المرأة في المدن أو في القرى والمناطق النائية». المصالح والمفاسد ويضيف السعيدي «الحكم الشرعي قد يختلف في الأمر الواحد من منطقة إلى منطقة وفقاً لاختلاف حجم المصالح والمفاسد التي قد تترتب عليه، فقيادة المرأة في البادية غير المشمولة بلوائح وتعليمات أنظمة المرور في البلاد، وحين لا يكون عليها خطر من التعرض لحوادث تسيء لسمعتها وعرضها يبقى الحكم فيه في دائرة الأصل وهو الإباحة، أما حين تقود المرأة في تلك البوادي مسافات يعظم أنها مشمولة بأنظمة المرور، ولهذا تحرم مخالفة الأنظمة التي وُضعت لمصالح الناس إلا لضرورة مقتضية. موضحاً أن ما يتعلق بالمرأة التي تضطر للقيادة، فلا شك أن الضرورة تبيح المحظور، لكن بشرط أن يكون المحظور يُعمل به بالقدر اليسير الذي تندفع به الضرورة فقط، ولا يصح التمادي في عمل المحظور بعد تحقق ما يحصل به دفع الضرورة. وزاد «أرى أن نسأل أنفسنا لماذا اضطرت المرأة لهذا الفعل؟ والجواب أنها لا يمكن أن تقع في هذا الاضطرار إلا لأن المجتمع قد قصر في كثير من واجباته نحوها. فالمرأة التي لا يوجد بجانبها رجل، يجب على الجهات المختصة السؤال: لماذا لا يوجد بجانبها رجل؟ أين أولياؤها الشرعيون، ويجب على الجهات المعنية مساءلة أولياء هذه المرأة ومحاسبتهم على تقصيرهم. وأنا أتعجب من بعض الذين يحتجون لقيادة المرأة للسيارة لكون بعض النساء لا يستطعن دفع أجرة سائق، فأقول إن التي لا تستطيع دفع أجرة سائق لا تستطيع بالضرورة دفع قيمة سيارة». حالات إنسانية وقال عضو لجنة الشؤون الاجتماعية والأسرة والشباب بمجلس الشورى الدكتور طلال البكري «إن موضوع قيادة المرأة للسيارة أشبع بحثاً ونقاشاً وجدلاً، ليس هناك في نظام المرور ما يفرق بين جنس وآخر، وما يحول دون ذلك هو تقبل المجتمع لمثل هذا الأمر، ومعلوم للجميع أن المرأة السعودية تمارس قيادة السيارة في البوادي والهجر، وأعتقد أن الحالات الإنسانية هي أيضاً محل اهتمام المختصين، فقد يكون لدى المرأة ما يجبرها على ذلك، فليس كل الناس قادرين على استقدام سائق، وحينما يكون هناك ظرف طارئ فلا أرى ما يمنع من مراعاة ذلك، ويضيف «في أعتقادي أن قيادة السيارة حق من حقوقها لمَنْ تريد منهن دون إجبار، وليكن الأمر اختيارياً، فليس الكل راغباً في ذلك وليس الكل رافضاً له». وصمة عار ومن الجانب الاجتماعي والنفسي، يقول الاختصاصي الاجتماعي محمد الأحمري «إذا كانت قيادة المرأة للسيارة على سبيل التقليد والترفيه، فهذا أمر بلا شك يؤثر سلباً على الجوانب الكبيرة للأسرة الدينية والمادية والاجتماعية، وإذا كانت الحاجة ماسة فتحل القضية عن طريق الأسرة، ولله الحمد مجتمعنا وتركيبته الاجتماعية فيه من الدعم الكافي لحل مثل هذه الاحتياجات». ويتساءل الأحمري، قائلاً: «لماذا ننادي بقيادة المرأة للسيارة ويغيب الرجل عما يقدمه للأسرة، ويغيب باقي أعضاء الأسرة؟ فقيادة المرأة للسيارة، فيها مشكلات اجتماعية عدة منها (وصمة العار) التي قد تحدث للمرأة نتيجة قيادتها للسيارة، ثم تتنقل للأسرة، وتتعقد المشكلة أكثر وأكثر. كما أن ذلك يشغلها عن دورها الأسري والاجتماعي، وواجباتها تجاه أسرتها، وزوجها وأبنائها من ناحية التربية والقيام على شؤونها، وما قد تلاقيه في حالة حدوث مشكلات قانونية أو جنائية أو صحية بسبب حادث ما، إضافة إلى الاعتداءات والتجاوزات اللا أخلاقية التي تجدها أثناء خروجها لوحدها أو حتى مع محرمها من الشباب ومرتادي الطرق». رعاية مجتمعية ويؤكد الأحمري أن المرأة السعودية لديها مجتمع يرعاها ويهتم بها، ولا يرغب أن يحاك لها كل ما يدعو للنيل من مكانتها الاجتماعية ودورها، وأدعو الرجال بما آتاهم الله من قوة التحمل والصبر على تحمّل تلك المسؤوليات الأسرية، وإعطاء الأسرة حقها من الدعم الاجتماعي والتواصل الأسري وقضاء حاجات المرأة، فالحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، وفي هذا الحديث إشارة إلى الخيرية في التعامل مع الزوجة والأسرة في كل جوانب الحياة. إدارة المرور لا تتجاوب هذا ومن جانب آخر، حاولت «الشرق» أخذ رأي إدارة المرور في هذا، وتوضيح العقوبات المترتبة على مَنْ يتم ضبطها تقود السيارة، ولكن لم تتجاوب.