في ذات ليلة ممطرة وبرودة الشتاء تسري في أوصالي من شدة البرودة وكنت جالسا في شرفة الشقة في أحد أحياء بوسطن الراقية على كرسيي الهزاز أطالع المنظر الجميل الذي أمامي بنزول المطر ويخالطه الثلج قبل أن تهب تلك العاصفة التي ملئت الأرض بياضا من ثلوج عارمة أتت بالصباح من عقب تلك الليلة المطيرة فأخذت أتأمل في بلدي أنظر إلى الناس الذين تغيرت ملامحهم من التجهم والنظر بالارتياب لكل قادم أو زائر ورأيت رجال الجوازات يهبون إلي مرحبين ومهللين ويأخذون جوازي سفر أنا وعائلتي وتم الختم والتفتيش دون المشاكل القديمة التي كنت أتذكر أن البعض لا يرد السلام عليك خوفا من أن تكون تطيح معه الميانة أو المعرفة فيصبح لك صديق أو معرفة في الجوازات وخرجت إلى صالة الجمارك الذين ما أن رأوني إلا وترحاب وعناق وتحمد بالسلامة خرجت من المطار فرأيت الشوارع نظيفة والناس غير الناس الذين عهدتهم قبل فترة الأشهر التي غبتها عنهم في بلاد الغربة ورأيت الصبية والشبان يلعبون في ملاعب مزروعة ومسورة وهم في فرح وسرور ورأيت الأطفال هادئين في ملاعبهم التي هي جديدة كليا ومنظرها غريب علي ورأيت الشوارع الفسيحة التي كنت أتذكر زحمتها وصياح وإزعاج أبواقها المزعج وصوت المسجلات الصادرة من سيارات الشباب الحافلة بالأغاني الغربية التي لا يفقهوا منها سوى صوت الموسيقي فقط ورأيت الكل يحترم الإشارة وإشارة قف التي كنا بالأول لا نقدرها وهي وضعت لحمايتنا عند التقاطعات والمخارج ورأيت الجسور والكباري والانسيابية في المرور لدرجة أن الزحمة تنساب انسياب الماء من منحدر فتصل إلي بيتك في بضع دقائق والى دوامك كذلك ورأيت الحافلات تأتي في مواعيد محددة لنقل الركاب بين المناطق بدقة متناهية يا للعجب هل أنا في ديرتي أم في بلد أوربي لا أصدق . فحقا هذه البلد التي كنت احلم بها في بلدي فأن هذا الوطن هو الأم الكبرى التي تضمنا بين حنايا ضلوعها بوسط الصدر بجوار القلب فهذا الحب كيف نبادله حب بحب وكيف نقوم على هذا الحب بالعناية والرعاية الدائمة له حتى يكبر وينمو ويورق هذا الحب بثمار تغطي جوانب كثيرة من حياتنا فالمواطنة هي شرف الانتماء لبقعة ولدت فيها وتربيت فيها وترعرع صباك وشبابك وشيبتك وشيخوختك فيها ففيها مصدر رزقك وعملك وربعك وجماعتك وأصدقائك وأسرتك الصغيرة والكبيرة فالمحافظة على هذا الحب يكون بالصدق ومن غير زيف. وبينما أنا في خضم هذه الأحداث المتزايدة الوتيرة وإذا بيد زوجتي تهزني بقوة وتشدني من جيبي محاولة إيقاظي من النوم في الشرفة في هذا الجو القارص فأفقت من غيبوبة الأحلام الجميلة ورجعت إلى الواقع المر الذي هو الحقيقة التي لاتقبل القسمة على أثنين فدمعت عيناي على هذا الحلم الجميل الذي كنت أحلم به لوطني . بقلم الأديب الأستاذ/ مبارك بن محمد الجروي ذكريات بوسطن