أضاء شعرها بياضًا تحت “مسفع” الحزن.. وغرقت عيناها بين تجاعيد الدموع.. وجرى العمر بها عشرات السنين منذ لحظة رحيله.. حين غادر هو، لم تستطع أن تغادر هي، دون أن ترفقها أغراضه من سدادة الإذن، فرشاة الأسنان، النظارة، الجوال، وإلى وسادته الأخيرة.. أشياؤه هذه كانت أهم لديها من تذكرة الطائرة، وجواز السفر، والمقعد المحجوز لها في الدرجة الأولى.. أشياؤه هذه بالنسبة لها كانت هي الأمس، واليوم، والغد.. حين غادرت شُقّة “لندن” مودعةً آخر محطة في رحلة الأربعين عامًا.. المحطة التي وقف فيها الحب مع العطاء، والحنان مع الألم.. المحطة التي جاءتها قطارات، وغادرتها قطارات، وهي ترى كل يوم تلك السيدة التي وقفت بين الثلج وبين زوجها لكي لا تسقط على أطراف معطفه “فتلة” من قطن الشتاء.. كان المغيب الأول بعد عناق أشهرٍ، بحثت فيها عن الأمل في دعائها، في صلاتها.. في خدمته.. وحتى في النبتة التي اخضرّت بعد الذبول على الشرفة.. كان المغيب الذي لن يليه إشراق، رغم تعاقب الليل والنهار. بالصدق رأيتُ.. وأدركتُ.. وتأكدتُ.. بأنكِ أنتِ مَن جعلهُ أميرًا دون إمارة، يجد الماء قبل أن يعطش.. يأكل قبل أن يجوع.. يلبس حذاءه قبل أن يرتديه.. ويُلبى قبل أن يطلب.. كنتِ خَيرَهُ.. وخَيرته.. وخيريته.. كنتِ ميناءً لكل المحيطات التي أبحرت فيها سفينة حياته.. وحتى حين تضرب الأمواج سفينته، كنتِ أنتِ الميناء الوحيد القادر على إصلاحها، وتزويدها بالماء والغذاء والورد.. كنتِ صبر المرض بقوة الإيمان.. ورضا الضعفِ، وصمت الخوف من الفراق.. كنتِ ابنة أهله الرضية.. والدة بناته الحنونة العظيمة، وزوجته الرائعة بإبداع ب”ربي يخليك”.. “الله لا يوريني نارك”.. “الله لا يحرمني هذا الصوت”.. احتويته.. وضممته.. وأسندت رأسه على كتفك.. ب“سلامتك من الآه”.. ب “يحيي العظام وهي رميم”، كنت تستنكرين الوداع الأخير.. وكيف تصدقين، وقد كان عمرًا ليس مثله عمر.. ذاك الذي كان بطل حكايتكِ، كان شابكِ الأسمر النحيل، الذي أُغرم ببنت الجيران الجميلة، وتزوجها، وأحب إنجاب بناته منها، وافتخر بأنه أبو البنات، فاحتوى منزله صدقًا.. ورأيًا.. واحترامًا، وأحاط أحفاده عطاءً.. ودفئًا.. وحنانًا.. كان البطل الذي ظن أن مرضه أتعبكِ، فكنتِ الأعذب باعترافك بجميل سعادتكِ.. عزتكِ.. وفخركِ به.. كنتِ.. وكنتِ.. وكنتِ.. ومازلت -حفظك الله- خَيرة محمد صادق دياب.