مازلت أتساءل عن الرابط الخفي بين ثلاثية الموت والمثقف والهجرة.. إذ لا يكاد سجل أي مثقف حقيقي يخلو من هذه المفردات في حياته أو بعد مماته. فالطيب صالح مات بعيدا عن وطنه بعد أن أهدى للعالم رائعته (موسم الهجرة إلى الشمال)، وهاجر - تاركا لمحبيه موسما آخر للهجرة - نحو إنتاجه الذي تغلغل في أعماقنا. ومات محمود درويش بطريقته الخاصة وخلّف لنا عزاء من نوع آخر.. مات بينما نبحث عن رثاء في نصوصه التي كان لها موعد مع الموت حتى في حياته نفسها. البردوني عاش متألما ومات باحثا عن الموت متجولا بين إيحاءاته كما توحي نصوصه. هؤلاء جميعا غادروا الدنيا وكأنهم على موعد خاص مع الموت.. إذ يشعرون بدنوّه من مصائرهم، فيتعجلون الكتابة حتى يجابهوه بطريقة مختلفة.. ماتوا جميعا بعد حوار عميق مع المرض والذات.. حوار قد يمتد إلى خصومة يسمع صداها عشاق لهم حاولوا تكذيب الموت، وهو القدر الذي لا يكذب أبدا. ماتوا بعيدين عن أوطانهم لكنهم لم ينسوها قط.. فلغة الانتماء جلية في نصوصهم. والموت حاضر أبدا في تجليات أعمالهم، والمصالحة مع النفس بادية لكل قارئ يستهويه البحث عن الغامض المستتر. نفوسهم كانت تواقة للعيش الأبدي، مسكونة بحب التخليد الذي يرضي غرور الذات لولا أن الموت جاهز دائما للفتك بأجسادهم دون أن يطول أثرهم الباقي بيننا.. وربما يكون عبده خال أقرب إلى هذا التعبير حين يقول: (نحن كائنات يصل إليها عطب الموت سريعا). لم يجدوا هذه الضالة إلا في إصدارات كتبت لتظل خالدة لا على أرفف المكتبات وفي دور النشر، بل في قلوب قراء ألفوا نصوصهم واعتادوا تألقها في صحوهم ومنامهم. ليس في ذهني جواب واضح عن تلك الأسئلة العصية، لكننا سنبقى نحاور الموت على طريقة من تركوا لنا كل شيء، حتى علمونا أن نقرأ الموت بطريقتهم.. أو ربما بطريقته..!