في الوقت الذي أصبحت فيه ثقافتنا مبنية على إنتاج مقبول وأسس علمية، وتحولت من التقليد إلى الصناعة ومن مفهوم دارج إلى علم وفن وسلوك وأسلوب حياة، خرجت إلى السطح ثقافة التصنيف والاتهام التي استغل صانعوها دس السم في الدسم لتحقيق شهرة ومآرب على حساب الثقافة المحلية. وبعدها تولدت لدينا تيارات تشبث كل طرف فيها بموقعه ليحارب الطرف الآخر دون التفات إلى القيمة الحقيقية التي يمكن أن يخرج بها أي جدل عقلاني هادف بين التيارات، كما يحدث في كل بلد متقدم. فالتيار الإسلامي مثلا، اختار أن يكون متشددا في تعاطيه مع المثقفين، متناسيا أن الثقافة جزء لا يتجزأ من الدين وأن الحضارة الإسلامية قامت على منجز ثقافي أساسا، إذ كانت جلسات الشعراء والأدباء تقام كفعاليات يومية في بلاط الحاكم أو الوالي، كما أننا تلقينا علومنا في المدارس تحت مسمى الثقافة الإسلامية، فكيف يمكن الفصل بين المصطلحين بهذه السهولة؟ وعلى الجانب الآخر، بالغ بعض المثقفين في ردود أفعالهم التي اتبعت الأسلوب نفسه في كبت الرأي المخالف، حتى تحولت الساحة إلى ميدان حرب للتراشق الإعلامي الفارغ من المحتوى والمستند في المحصلة على تصريحات فضفاضة ينقصها العمق. والشاهد أن المناقشات بين المثقفين من صنّاع الحداثة أو مناصريها وبين المحتجين على الحداثة بإطلاق، تخلو تماما من النقد الموضوعي، وتتسم عموما بالتهجم المباشر على الأشخاص لا الأفكار، وهذا يحرمنا كما هو واضح من الجدل المنعش الذي يغني الفكر ويجدد العقل، فأصبحنا نحن القراء والمتابعين ضحايا في معركة لا طائل من ورائها، ولا ناقة لنا فيها ولا جمل.