في الوقت الحاضر يدور جدل كبير حول مدى نجاح موسم العمرة في رمضان المبارك، وأيضا موسم الحج المقبل، ويحذر كثيرون من خطورة مرض إنفلونزا الخنازير وأثره في المعتمرين والحجاج، لكن السعودية تقف موقفا ثابتا وقويا تجاه هذا الملف؛ فهي لا تألو جهدا في الرعاية الطبية والأمنية لضيوف الرحمن، وبالأمس أكدت أن جميع مرافقها وكعادتها على أهبة الاستعداد لخدمة الزوار، وأن جميع الوزارات والهيئات والمؤسسات تستنفر جهودها وفرق عملها بشكل مكثف ومركز، خصوصا عندما يكون الأمر متعلقا بالحجيج، لكن هذا الموضوع يثير العديد من التساؤلات حول السياحة الدينية والمقومات الفريدة التي وهبها الله تعالى للسعودية، وهل يمكن اعتبارها فرس رهان لتأكيد التفرد والخصوصية؟! ومن ثم تحقيق عائدات مادية يتم الاستفادة منها في عمليات التنمية الشاملة؟ بل يمتد نطاق الأسئلة ليشمل السياحة الدينية بوجه عام في الدول الإسلامية والعربية، خصوصا في ظل التحديات العالمية والمخاوف الحالية والمتجسدة في إنفلونزا الخنازير والأزمة المالية العالمية وغيرهما. مفهوم السياحة الدينية يتجلى واضحا في زيارة العديد من الأماكن خصيصا؛ كونها مزارات دينية، لكننا نريد تأكيد أن الحج لمن يزورون بيت الله الحرام في مكةالمكرمة والحرم النبوي في المدينةالمنورة بالسعودية، التي تعد أهم الأماكن المقدسة في الإسلام، هي ليست سياحة بقدر كونها تأدية مشاعر وفريضة دينية واجبة على كل مسلم استطاع إليها سبيلا، ولكن ما يرافقها من زيارات إلى الأماكن التاريخية فإنه يعدُّ سياحة مثل زيارة البقيع وجبل الرحمة وغار حراء وقبر حواء، والكثير من الأماكن الأخرى. يتجاوز عدد المسلمين المليار و200 مليون مسلم في أنحاء العالم، وفي العام 2008 استقبلت السعودية أكثر من ستة ملايين حاج ومعتمر من الخارج، مع الالتزام بعدد الزوار بنسب محدودة من الدول؛ نظرا إلى عدم اتساع المكان لأعداد أكثر، وكلما تزداد التطويرات والتوسعات في المشاعر الإسلامية يزداد هذا الرقم. وبخلاف الزوار الذين يأتون إلى الدول العربية الأخرى، حققت السياحة الدينية في منطقة الشرق الأوسط في العام 2008 نحو 18 مليار دولار، حسب إحصاءات الأرقام الأخيرة الصادرة عن الهيئة العالمية للسياحة الدينية، وهذه الأرقام تعتبر مشجعة في ظل الأوضاع الحالية، وتداعيات الأزمة المالية العالمية؛ فهناك قرابة 375 مليون سائح حول العالم تجذبهم زيارة الأماكن المقدسة والدينية. وتستقطب المنطقة العربية 300 مليون زائر سنويا، وتجذب السعودية ستة ملايين زائر، وتدر دخلا يقدر بسبعة مليارات دولار سنويا، والعراق أيضا جذب نحو ثمانية ملايين زائر لزيارة بعض الأماكن المقدسة في النجف، وتحديدا مرقد الإمام علي، وهناك توقعات بزيادة العدد إلى 20 مليونا في حال الاستقرار الأمني وافتتاح مشاريع مهمة مثل مطار النجف الجديد. واستقبلت فلسطين ما يزيد على مليون زائر في العام 2008 على الرغم من الاحتلال الإسرائيلي والحروب، زار 95 في المئة منهم القدس التي يتوق إلى زيارتها كل مسلم؛ فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين، واستقبلت الأردن قرابة مليوني زائر في العام 2008، وزار سورية نحو مليوني سائح طافوا حول المعالم الدينية التي تهم المسلمين والمسيحيين. ومصر التي استقبلت نحو ثلاثة ملايين زائر بقصد السياحة الدينية، لديها اهتمام كبير بالقطاع، وتحرص على تطويره بشكل مستمر، وتعتبر مشروعات مثل إحياء وتطوير مسار العائلة المقدسة، والقاهرة الفاطمية من أهم المشروعات الحالية التي تم تنفيذها بنجاح. إن صناعة السياحة بوجه عام تتفوق على الصناعات التقليدية والنفط في إثراء خزائن الدول وارتفاع الدخل القومي، كما أنها من السهل جدا أن تقود الدول العربية نحو مستقبل مزدهر وآمن من أي تقلبات مفاجئة مثل الأزمة المالية التي نشهدها اليوم؛ فمهما تغيرت الظروف الاقتصادية في العالم فلن يغير المسلمون أركان دينهم، ولن يتنازلوا عن أداء فريضة الحج، ولا عن أداء العمرة؛ فأداء المناسك قائم منذ أن شرع الحج كركن خامس من أركان الإسلام، والمسلمون يؤدون العمرة اقتداء بالسنة النبوية؛ لذا فإن قرار الحكومة السعودية بتمديد نظام العمرة إلى عشرة أشهر مع الاحتفاظ بشهرين للحج فعال ومشجع للمعتمرين من حول العالم، وللقطاع الخاص، وجميع العاملين في مجال العمرة، ولو استغلت الميزة التنافسية للسياحة الدينية استغلالا مثاليا فستكون إيراداتها بمفردها بديلا حقيقيا لإيرادات النفط. ومن السهل عمل برامج مشتركة لتسويقها كمنتج تنافسي فريد ليس له مثيل في الدول الأخرى، لكنه يحتاج إلى دراسات عميقة، وتخطيط جيد، مع الاستعانة بالخبرات الدولية المتخصصة في مجال السياحة، واستشارة خبراء الخدمات اللوجستية. الاهتمام بالسياحة الدينية له فوائد كثيرة منها تطوير المنشآت الدينية التاريخية، وزيادة نسبة الاهتمام بها، زيادة دخل المواطنين وتقليص البطالة من خلال فتح آفاق جديدة من مجالات العمل أمام الشباب، زيادة دخل الأسر؛ نظرا إلى قيامها بإنتاج وبيع الصناعات اليدوية والمنتجات التراثية للزائرين، تنشيط الحركة التجارية والعقارية والنقل، التطور البيئي والنهوض العمراني ورفع المستوى الثقافي والوعي القومي بأهمية السياحة كمصدر للدخل. وأخيرا، إذا جعلت كل دولة عربية من السياحة عموما، والدينية خصوصا، أنشودةَ كل مواطن، ومعلما من معالم الحضارة العالمية يشتاق كل شخص إلى زيارتها، ونفتخر بأن نصطحب ضيوفنا للتمتع بربوعها، ومع تنفيذ هذه المقترحات، نتوقع أن يكون للسياحة عموما، والسياحة الدينية على وجه الخصوص، شأن آخر.