إنها بيوت قديمة ومهجورة في جنوبالرياض، يبدو أن الجهات المختصة أبقت عليها كنوع من الوفاء والاحتفاظ بالماضي على طبيعته دون تغيير، غير أنها تعجز عن مواجهة الزمن ومقاومة أعراض الشيخوخة والتصدع. في لحظة فضول قد تكون هاربة من عقارب الساعة، فكرت في فتح ملف الرياض القديمة من خلال جولة على ما تبقى من بيوتها، ولكني لم أتمكن من تنفيذها نهارا فقمت بها ليلا.. توجهت إلى المكان فكانت أولى العقبات في رحلة البحث عن الماضي عدم وجود موقف للسيارة وبعد بعض العناء وجدته، توقفت وترجلت في اتجاه ذلك الموقع المظلم الموحش، دخلت أحد البيوت في محاولة لاسترجاع عقارب الساعة من حيث التصميم العمراني للمكان فلفت نظري وجود بعض الحركة من قبل أشخاص من العمالة الوافدة الذين على ما يبدو يسكنون تلك البيوت فأخذوا يرمقونني بنظرات استغراب تكاد تذهب بعيدا حيث الاستهجان. في الحقيقة لم ألق للأمر بالا، بل تركتهم وهواتفهم المتحركة وواصلت رحلتي حتى انتهيت إلى التأكد من أن تلك الأماكن ليست مهجورة كما كنت أتوقع بل إنها مأهولة بالسكان، ولكني لا أعرف مدى شرعية وجودهم في المكان، لأغادره باحثا عن أحد أتحدث إليه من الموجودين في المكان. أشباح وروائح كريهة في تلك الأثناء سمعت صوت وقع أقدام وكأنها لرجل هرم طاعن في السن، فعلا فلقد كان المواطن السعودي الوحيد الذي التقيته في تلك الأزقة المرعبة ومنازلها المتهالكة، العم مساعد الثبيتي الذي كان يتكئ على عصاه المتعرجة القديمة وقد احتلت التجاعيد جزءا كبيرا من وجهه الصغير الذي كان متجها إلى منزله «المسلح» خارج أسوار تلك الأزقة والمنازل المهجورة. يقول الثبيتي إنها مصادفة غير متوقعة أن يصل أحد إلى هذا المكان ويحاول التعرف عليه منذ قرابة سنة كاملة «لم أجد خلال العام من يسأل عن هذه المنطقة أو يوليها شيئا من الاهتمام؛ لأن الجميع ينفرون منها، ولا يحاولون الاقتراب؛ خوفا من أن تكون مسكونة بالأشباح أو أي شيء آخر». ويضيف «السكان الحاليون في الغالب من العمالة الوافدة والجنسيات الآسيوية، الذين لا يعرفون أبسط قواعد النظافة، فالنفايات ملقاة في كل مكان وتنبعث من المكان روائح كريهة، إضافة إلى عدد من الظواهر السلبية الأخرى التي تحتاج إلى حل جذري». يا زين تلك الأيام توارى الثبيتي عن الأنظار، واستكملت الجولة في المكان الذي يتواجد فيه أكبر وأقدم مستشفى في الرياض الذي زينت الشوارع التي تحيط به بالمحال الفارهة والمطاعم الكبرى المشهورة والمراكز التجارية التي تحتل مساحات شاسعة بالقرب من مستشفى الشميسي المشهور، وقد كانت الظلمة هنالك وكلما ابتعدت عن المستشفى متجها ناحية الشرق تشتد، في الوقت الذي تتكاثر فيه المباني المهجورة والعمالة السائبة، التي بكل تأكيد ليست من تلك الفئة التي يمكن أن يثق بها كونها تقول لك وبمجرد النظر في أعينها إنها عمالة تسعى لكسب الرزق بأي شكل كان وبمخالفة الأنظمة طالبين منك، بنظرة حزينة، أن تتستر عليهم. خرج أبو سعود مسن يتكئ على عصاه، أقبلت عليه وسألته إن كان من سكان المكان فنفى وقال «أسكن في الجهة المقابلة من الشارع» وقبل أن أتوجه إليه بالسؤال بادرني بالقول «لم يعد هذا الحي كما عهدناه من قبل» وباللهجة المحكية قال «يا زين ذيك الأيام» ثم غادرني ومشى في طريقه ولا أدري إلى أين ذهب؟! أما أنا فبعد سماعي تلك الكلمات بحثت عن ضيف آخر فوجدت «زكريا» مقيما مصريا يعيش قريبا من المكان ويعمل في مطعم مشويات الذي قال «لا نعرف شيئا عن تلك المنازل المهجورة، ولكننا لا نسمح لأبنائنا أو نسائنا بالخروج في وقت متأخر من الليل والسير حول أو بالقرب من تلك المنازل» وإذا كان هذا حال السكان فما حال أصحاب المحال التجارية المحيطة بالمكان؟! فقر شديد في حي آخر من أحياء الرياض أشبه بتلك الأحياء التي تعرضها القنوات الفضائية في إفريقيا الفقيرة وبعض من شرق آسيا.. ذلك الفقر المميت الذي يظهر على وجوه السكان وهذا ما تم رصده على محيا تلك العجوز الطاعنة في السن وزوجها اللذين كانا يجلسان على عتبة منزلهما الصغير منتظرين منجدا يسعفهما بكسرة خبز أو عصير ينعش عظامهما الرخوة. طلبا تصوير منزلهما المتهالك، وحقيقة قد لا يطلق عليه منزل، فمنذ أول وهلة ظننا أنه مكان تجمع فيه الحاويات والخردوات حيث تكدس الأوساخ الكثيرة، فالبيت متهالك جدا، ومساحته نحو ثلاثة عشر مترا فقط، ومظلم جدا حيث لا توجد فيه كهرباء، تقول المسنة صاحبة البشرة السمراء «ليس لدي أولاد فجميعهم متوفون، والمحسنون هم من يطعموننا كل يوم، فضلا عن الأمراض التي تصيبنا جراء هذه الأوساخ والفقر الشديد الذي يحل بنا». لم يتغير شيء حين المرور بين تلك الأزقة الضيقة تجد جميع سكان تلك المنازل الطينية ينظرون نظرة استغراب ويبدؤون بممارسة المشي خلفك، فضولا، وكأنك مخلوق غريب، ومن خلال مروري في الأزقة الضيقة بين البيوت استوقفني منظر تجفيف الخبز أمام أحد تلك البيوت فاقتربت منه ووجدت امرأة في العقد السادس من العمر، سألتها عن حالها، فأجابتني بصوت متقطع «نحن نعيش الموت كل لحظة» وبدورها سألتني إن كان لدي مساعدة لها لأقدمها وإلا أتركها وشأنها، وحاولت معها لكنها رفضت الإجابة!! وأمام باب «أم محمد» المشهورة في الحي بعلاقاتها مع من يرتادون الحي رفض أحد أبنائها التصوير قائلا وهو غاضب «كم هي المرات التي تأتون إلى هنا وتكتبون وتبحثون عن أوضاعنا ولكن لا حياة لمن تنادي.. نحن نسكن هنا منذ أكثر من ثلاثين سنة ولم يتغير شيء، الفقر يزيد والمساكن تالفة ومتهالكة، وليس فيها وسائل الراحة فضلا عن هذه العمالة السائبة التي تقفز كل يوم على منازلنا وتسلب مأكلنا ومشربنا دون رقيب أو حسيب». وهنا وضع ابن «أم محمد» نقطة في آخر سطر الجولة، بكلماته التي أطلقها بأسى يلخص وضع أحياء وسكان وحياة أخرى تختلف كثيرا عن بقية أهل الرياض .