تمكنت الحركة التشكيلية وعلى مختلف مستوياتها، العالمية منها أو المحلية، من التمركز في دائرة الخلق الإبداعي الفني المنسوج من مرادفات الخيال بصورته الذهنية المعتمدة على أسس اختصار المسارات الفنية وتمويه دلالاتها التشكيلية، حيث تجاوزت معطيات الفن المعاصر محدودية الأشياء وترجمة التفاصيل بجمالية يبتغى من خلالها ارتكاز النص الفني على وظائف تجريدية تصل أحيانا إلى حد المطلق. إلا أن ذلك الارتكاز الحتمي على تجسيد الشكل الفني الحديث عبر انسياق المنجز إلى آلية الاجتثاث من التصور المقتبس من التراث والهوية الوطنية، جعل هذا المنتج الفني التشكيلي المتخم بالحداثة يبدو أقرب إلى كونه مساحات لونية تعج بالتناقضات والتعقيدات التي أفرزتها روح ما بعد الحداثة في عوالم الفن التشكيلي المعاصرة. الحداثة وما بعدها تبنت الحرية دون حدود حتى لم يعد من الممكن تحديد مفهوم محدد للفن المطروح والسبب غالبا ما يعود إلى إزالة المعقول والابتعاد عن معايير اللوحة بتجلياتها الجمالية المتوارثة. كما سطت التقنيات الحديثة بأدواتها ودلالاتها المطروحة تحت أسماء عديدة على الفن المعروف بالطليعي وصاغت تبدلاته غير المتوقعة في معالجات جديدة حتى أصبح العمل الفني لا يمثل سوى تكهنات لونية أشبه بصبغات بعيدة عن القيم التشكيلية، على الرغم من وجوب أن يكون الفن عنصرا فعالا في محاكاة ملامح الحياة ودافعا للارتقاء الذوقي. لكن تلك الانسياقات لم تصل بمجملها إلى ملامح التشكيل السعودي الذي ما زال يعكس عبر فضاءات عالمه صورا اغترفها من ملامح التراث والهوية والتي يقتضيها الفن الإنساني الذي يتواصل مع مرجعية الذوق العام مع الإبقاء على أطر التطور وشرعية التجديد والتجريب. وهنا من الممكن القول إن الفنان التشكيلي السعودي المعاصر استطاع تقديم إمكانياته الفنية المستمدة من التراث وإقحام خصوصية الصورة في حيز اللوحة التي ترجمت حضارته بأسلوب مدرك بالنسبة للمتلقي مع الحفاظ على مستويات التطور الفني. حتى بدا المشهد التشكيلي السعودي الحديث مزيجا من التجارب التي أعفيت من غرابة ما بعد الحداثة وبقاء الصلة بين زمانها وبيئتها التي لم تتجاوز المألوف حيث صناعة تشكيلية إنسانية لم تلغ مكتسبات الجديد على حساب الذائقة المحلية وذلك عبر ابتعادها عن الاستعارات التشكيلية الغربية الصاخبة والتي ساهمت في خنق ذلك التواصل الإنساني مع الموروث، فالأعمال التشكيلية السعودية التي تبنت الحديث هي أعمال لم تختصر الفعل الفني المصاغ بمدى اجتماعي وبيئي، وصورت مناطق التعبير على شكل مساحات من الاستكشاف المؤول بعناصر من التراث بأدوات عصرية وذلك لتأكيد الهوية الوطنية عبر منحها تعبيرا موصولا بالزمان والمكان دون التنكر عن مصادر الحداثة وأدائها التعبيري. كما كان الفنان التشكيلي السعودي محاطا بعوامل قادت مخيلته اللونية إلى منجز وثق عصره بلمحات من الواقع من غير الالتجاء إلى بهلوانية الألوان وطلاءاتها المؤطرة باسم الحداثة المطلقة والتي تبناها الكثير من الفنانين التشكيليين العالميين بدعوى التجديد والإبداع دون الالتفات إلى الذائقة العامة واقتصاره على مخاطبة الأقلية. ليؤكد الفن التشكيلي السعودي على أنه فن اقتبس سماته الفنية المحافظة من ارتكازات الحياة لتبدو الأعمال متمازجة بدلالاتها التعبيرية عبر انغماسها بموروث نهل رموزه من الطيف الثقافي وأعاد إنتاجه بهيكل يمازج بين القديم المكتسب والخيال الفني لتبدو تلك الامتزاجات اللونية صفحات من التماهي الفني والحياتي بقوالب إبداعية. زمن العقيلي