يتذمر من كل شيء ومن لاشيء.. يكاد يكون نصف أخرس ونصف أعمى في الأوقات جلها، حين يريدون له أن يرد السلام بسلام، أن يبتسم، أن يرى ألق مدينته الكبيرة في أمسيات الصيف، نجد التي تحمل طفولته وصباه، قوته وضعفه أو ربما قوته وبعض ضعفه فما زال يناغي الأربعينات وإن كان انسلاله منها أقرب مما يظن بكثير. صبا نجد التي يتوق لها ولا يكاد يحس بحضورها أو انتفائه، ولا تنفذ خزامى تسكنها لأقصى رئتيه كما كانت منذ ودع عمره منزلة الآحاد وفعليا منذ خطى للعشرين وأمعن مدنا أخرى - في أوج صباها. نجد.. الحبيبة الأولى / رفيقة الصبا والحلم لم تعد جميلة كما كان يراها كان يقول إن كل الأشياء فقدت بعضا منها، لكنه لا يعلم ما المفقود حتما ولا يقدر على تفسيره حتى لذاته.. التفسير الأوحد المرضي أنها غادرت من قوة لضعف كما تغادر الأشياء كلها ضعفا فقوة لضعف. وقد يكون لكبره جرم حرمانه إبصار أقراط تتدلى بغنج في سماها، وجلده بات خشنا لدرجة يستحيل معها أن يشعر برقة الصبا.. أم هو البين الذي وقف حائلا من صلب يمنعه تمييز رائحة الغضى والرند؟ في صحوه تمنى أن يغادر إلى مدن تكبر ولا تهرم، وشتان بين المغادرة والسفر، فللمسافر ترف إياب لا يحوزه المهاجر الذي لا إياب يرجو أو يريد.. ولما غفا يوما في ساعة قيظ رأى أن أطرافه اليمنى تلامس شعلة تمثال الحرية وكأن قد مسه حرق منها فأستيقظ فزعا! ما الذي يريد؟ هو لا يعلم.. وهل عدم علمه ذاك نتاج تطرف حب؟ هو لا يعلم كذلك، وأي جدوى ترتجى من سرد رؤياه المفزعة على من يعبر أو يزعم ذلك؟ أم أنها ليست إلا وخزا إبليسيا شبه ليلي؟ وهذه المرة حتما هو لا يقدر أن يعرف، لكنه يعرف حقيقة لا تخضع للاحتمالات هي أنه يحب اليمامة كما كانت ويحب اليوم فيها أشياء دون أشياء، المهم أنه مازال يحب التي مدت ذراعيها لمن حل بها كجناحين، وهي - كما يرونها - مدينة الغبار والزحام وكل ما لا يطاق. لقد زادني مسارك وجدا على وجد! كان يلعن المدن المتخمة دخانا وبشرا من كل مصر، كيف يشرح أن المكان ما عاد المكان، والأرض ما عادت الأرض والبشر والتفاصيل الموغلة في الصغر غير المهمة ولا الضرورية التي لا نبصرها لكننا نحس بها لم تعد موجودة.. ما تبقى أطلال، كعادة الصحاري تشد على الأطلال ولا تلتهم الذكريات. كان يتلعثم – من مكيدة الشوق وفقر الذاكرة - كما يتلعثم الأب الذي يصف لابنته الصغيرة جدتها ذات الشعر الحنائي تارة والمطلي بياضا تارة أخرى وعيناها الغائرتان في ملامح موشاة بتجاعيد عميقة، صبية غضة لها جدائل سوداء فاحمة تزينها «هامة» من الذهب وعينان نجلاوين يغرق في بياضها خيط كحل دقيق و«مخنق» أسود مخرم ومطرز بخيوط «زري» يطفئ لون ثوبها الأحمر الصفيق ولا يكاد. يشبه الأب الذي يصف.. والطفلة التي تسأل ما المخنق والهامة والزري؟ هو يصف وهم يسألون «وما نجد؟». مدونة: آلاء الصالح http://alaablog.ws/