سماء الشرقية تمطر، ورغم معاناة شوارعها واكتظاظها بأطفال متسولين لا يجدون الآن موئلا يقيهم السماء، لكنها - رغم ذلك - تمطر حنونة ومدللة.. حتما لم تكن قاسية كقساوتها على عروس البحر جدة! فلربما نحتاج إلى كثير من مسالك السيول والعديد من الجبال لتكشف مدننا سوءاتها أيضا، ولنعرف أن مائدة الفساد ممتدة. الأربعاء الماضي كانت جدة على موعد مع المطر، غير أنها لم تتوقع أن يكون موعدها الرومانسي المنتظر فاجعة على قلوب أبنائها، ومصيبة على بيوت فقرائها، وسوأة مكشوفة على مائدة الفساد. في الأربعاء كان موعدها مع ممثل محترف صعد على خشبة مسرحها ليعيد بإتقان شديد نفس المسرحية التي حضرتها المسكينة قبل عام معادة بصورة رتيبة مع نفس الأبطال والإخراج، ولكن بتراجيديا مختلفة، وبتقنية أكثر جودة، وبإمكانيات أعلى، وبجمهور أكبر، وربما بضحايا أكثر هذه المرة! هذه المسرحية الدامية التي تعاد للمرة الثانية لم تعد مغرية للجماهير، فعنصر التشويق والمفاجأة والحبكة القصصية والصراع المسرحي غاب بشكل واضح، إذ الجميع يعرف النهاية حتى قبل أن يرفع الستار، والجميع يريد أن يتجاوز الأحداث ويتقي غضب المطر، لكنهم لا يملكون ما يحميهم من العراء الموحش، ولم يعد إلا الهروب، وهو السبيل الوحيد لاتقاء الموت والغرق والصراخ في فضاءات المسرح المأساوي. كان الجميع هناك، والكثير من المتطوعين والمتفرجين.. حضر الجميع وغابت جدة بفستان عرسها الأبيض وهي تختطف من قبل متكرشين امتلأت بطونهم من لحمها، ولا يزالون يمتصون دماءها دون خجل. غابت جدة والدهشة تسكنها، والخوف من أربعاء قادم بعد عام يرعب مضجعها وهي تستلقي بكل أناقتها المنتقصة على شاطئ الأحمر! إنها نائمة الآن وتحلم وتتمنى وترجو لو أنها مدينة بشوارع أخرى وأمانة أخرى. إنها نائمة الآن وتستمع لشقيقتها الشرقية وهي تهمس لها: أختي جدة أيتها العروس المنتظِرة للعزاء كل عام، سماؤنا ترتعد وتبرق وتصفر، لكننا نبتسم وأنت تبكين.