من تجربتي ..أتمنى أن أقرأ رواية تنهكني لأن الرواية المنهكة كالفيلم الجيد تشدني إلى سريري فأكون المخرج والمشاهد والمنتج. لكن في النهار ومع عجلة الحياة أتسمر عند المقال السهل الممتنع الذي ينقل ويحلل لي كاتبه واقعا من خلال وجبة خفيفة. عبدالرحمن العيدان تروق لي تلك الروايات التي ينغمس بها القارئ حدّ اللا شعور شرط أن تكون مبنية على أسس حقيقية ملامسة للواقع، أن تكون الرواية يشوبها الإنهاك ولكن ممتعة في الوقت ذاته. ولا أمانع أن يمتلك الإنسان عمودا أزليا، لكن على أن يكون ذاك العمود هو نبض الناس، متجددا كأنه يعكس مرآة الحياة، لا أن يكون مرددا لآخرين ومملوءا بالثقوب الفارغة لا أكثر. ماسة زيوس إن عجز الكاتب عن التأثير في القارئ يدفعه لإنهاك ليختبئ وراء الغموض المفرط.. فرق كبير بين البحث العلمي والأكاديمي وبين العمل الإبداعي وخاصة الروائي، وكذلك هنالك فرق كبير بين الإنهاك وبين جذب وشد القارئ واستفزاز ملكاته الثقافية. إذا كان المؤلف يكتب ليستعرض مكتبته المعلوماتية التي يحملها في ذهنه عن ظهر قلب، فلسنا بحاجة إليها نستطيع أن نتابع المكتبات. هذا النوع من الكتابة هو نوع من التعالي الفارغ بعيد كل البعد عن الإبداع وعن محاولة التأثير والتأثر. ما يضحكني جدا هو عبارة «إني أكتب للنخبة». عن أي نخبة يتحدثون؟ نخب الصالونات الثقافية المتقوقعة على نفسها البعيدة كل البعد عن نبض الشارع ومعاناة الإنسان.. النخب التي تعيش في عالم آخر؟ بالمقابل.. فإن تبسيط عملية الإبداع والوصول بها إلى السهل، السهل هو عملية سخرية حقيقة من عقول القراء.. لست أدري إن كان قدرنا أن نضيع بين النخبة وبين دراويش الشارع. لو نظرنا لأهم الأعمال الأدبية، الروائية منها على وجه خاص وعلى مستوى العالم كله، لن نجد منها ما ينهك القارئ، بل إنها تقرأ من الجميع، ولكن فيها من الأفكار ما يختلف في استخراجه قارئ عن قارئ. الأدب والفن هما من روافد الجمال، وليس من جمال إلا في أن نجعل الأبسط هو الأجمل. والأجمل هو الأبسط. لا أدري لماذا يظن بعض المثقفين أنهم قادرون على الكتابة والتأليف؟! إذا كان من الضروري على الكاتب والمؤلف أن يكون مثقفا.. فليس من الضروري مطلقا على المثقف أن يكون كاتبا. لو وقع في يدي كتاب مثل هذا الذي يتحدث إيكو عنه، فلن يمكث في يدي طويلا ولا في مكتبتي.. كذلك إن وقع كتاب في يدي من الجهة المعاكسة فسيكون له نفس المصير.. وكذلك عندما أحس أن الكاتب يستعرض عضلاته الفكرية علينا. عماد السامرائي أسعدني إجماع جميع المتداخلين على أنهم يفضلون الكتاب أو أي عمل إبداعي يستفز العقل ويحفزه.. رواياتنا وأفلامنا ومسرحنا تفترض جميعها في المتلقي السذاجة، وتشرح البدهيات بالإغراق في تفاصيل سخيفة.. عندما «قرأت الحب في زمن الكوليرا» و«مائة عام من العزلة» لماركيز الكولمبي كنت أجد نفسي أتوقف لأرجع بضع صفحات إلى الوراء لفهم واقعة معينة في ضوء واقعة سابقة، أو كنت أتوقف لأستذكر ما قالته أو فعلته إحدى الشخصيات.. ولهذا قرأت كلتا الروايتين عدة مرات «بفواصل زمنية طبعا». جعفر عباس