اقترب منها، ألقى على مسامعها جملتين، وعندما وجدها لا تجيب، حاول بجملة أخرى مقتضبة، وما إن رآها أدارت وجهها عنه تعبث بأغراضها المجاورة، انتابته نوبة «خجل»، فاستسلم للفشل وعاد بخفي حنين، بلا شراء أو مساومات. على البعد من الموقع، والقرب من الفكرة، كان آخر يترقب الفرصة، اقترب من السيدة البيضاء نفسها «التي تسر الناظرين»، لم يهمس في آذانها، لمقومات الخجل والحياء، قبل معايير الرقابة المجتمعية، والقيود المعروفة، لكنه ألقى على مسامعها جملة من العيار نفسه، جعلتها تخرج عن طورها، وتزحف باتجاه رجل من بني جلدتها يفترش الأرض في موقع مجاور، ولم تعد إلى حيثما افترشت، حتى غادر الضيف الموقع. هناك في قلب جدة، وتحديدا في شارع قابل، وفي مكةالمكرمة حيث مواقف كدي، وفي شارع الهجرة بالمدينةالمنورة، تتساقط عشرات الجمل الموحدة المضمون والمختلفة الطريقة، تجد اختلافا في ردود الأفعال. يتفق الجميع في تلك الشوارع على أنهم «جادون لخطبة الآسيويات اللاتي جمعتهن الشعيرة من كل فج عميق». شكل الخاطبين لا يوحي بجنسية بعينها، بل التعدد سمة المترددين على تلك المواقع، في ظل فسيفسائية الانتماء والأجناس التي تعيش في الأراضي المقدسة، وما جاورها من مدن، فيما الجنسية المطلوبة للود لا تخرج عن كونها آسيوية، حملتها حافلاتها من بلاد بعيدة الفكر والأفكار، والمسافات، وحطت رحالها في مهبط الوحي، ووضعت رغبتها في البقاء في بلاد الحرمين. بعضهن جاء بصحبة آمنة، وبعضهن رافقهن المحارم، قدما بقدم، وذراعا بذراع، لكن الجميع يرغب، ويأمل في البقاء في أرض هفت إليها أفئدتهم، لكنهم لا يسألون عن طريقة البقاء فيها، فوقها أو تحتها لا يهم «المهم أننا نبقى بجوار البيت العتيق». على امتداد البصر يتقافز إلى أرصفة بعينها مشهد الحجاج الآسيويين الذين يتوافدون إلى الحج، لقضاء شعائر الحج الأكبر، ثم يفترشون الطرقات طلبا للمنافع، يحملون المأكولات والملبوسات والمناظير بعيدة المدى والخردوات التي قلما عرفها الجميع إلا من خلال حاوياتهم. يبتغون فضلا من الله في البيع الحلال، الذي يعقبه عادة شراء حلال، مثلما طلبوا في يوم عرفة فضلا من الله: مغفرة وجوارا. وعلى المسافة ذاتها يقف العديد من الشبان الذين يتطلعون لاستقرار سهل ومريح، بعيدا عن المنغصات والعراقيل، يحدثون أنفسهم بإمكانية الوصول إلى ذلك عبر حافلة الآسيويات القادمة من وراء الجبال البعيدة. وتبدأ رحلة التفاوض، على أمل ورغبة، يحكمها أحيانا تسرع المراهقين، ورغبة الحالمين. يعرضون المهر «السكن بجوار الحرمين الشريفين»، ويعرضون الهدايا «شربة ماء زمزم في ليلة العرس». إنه نموذج مباشر في العرض والقبول، الذي يتم بعيدا عن إيقاعات الأوراق الرسمية، وقريبا من أرصفة الطرقات الرسمية في مواقع بعينها. المغريات والرفض في الجانب الآخر، تبقى المغريات القاسم المشترك في تبادل الحوارات، فيمن يمتلكن القبول أو الرفض، لكن في نهاية الأمر يأتي الرفض، بجملة تخرق آذان المتحدثين «آسفة.. هذا زوجي». بعض المراهقين يتمسك برغبته في الأجنبية التي لا تريد منهم مهرا، ولا قربانا، ويحلم بأي نوع من الزيجات، فالمهم في الأمر القبول، بأي انتماء أو مذهب كانت. والغريب أن بعض المتقدمين لا يملك حتى حق تقرير المصير في استمرار بقائه على هذه الأرض، فهو ضيف لا يفوق الضيفة الجديدة سوى بالأسبقية، ربما بأشهر معدودات، أو ربما بأعوام أغرته في خلود البقاء، فأصبح يدفع عربون بقاء الضيافة للأبد. تفاوض المحبين في كل عام، بعد موسم الحج، يتقاطر الشباب على برحات تلك الشوارع آنفة الذكر، غالبيتهم تتفاوض على بضاعة مزجاة بعينها، لا تخرج عن الدرابيل، السكاكين، المطارق، المناظير، التي تتميز بالجودة والحرفية، وبعضهم الآخر يتوسم الخير فيمن يبيع ويشتري. محمد حسين، ابن البلد الذي اعتاد سنويا الحضور إلى منطقة البلد في وسط جدة، خصوصا برحة شارع قابل، التي مثلما تحتضن عبق التاريخ القديم، تحتضن نكهات التاريخ الحديث، ممثلا في تمازج بضائع الحجاج الآسيويين، يضع في حوزته مبلغا لا يقل عن ألف ريال سنويا، للشراء، لكنه لا يعرف معنى الصمت المطبق على مجموعة السيدات البائعات «الكثيرات منهن يبدو أن المساومات في البيع والشراء أرهقتهن، فرحن يتمسكن بحبال الصمت، فلا أثر للمفاوضة، بل يضعن المبلغ في لوحة حاسوبية رقمية يشهرنها أمام الراغب في بضاعة بعينها، حتى يظن أنهن لا يعرفن العربية، فيما إذا أرهقها مشهدك، ثارت عليك بالعربية، لتكشف عن إجادتها لها، الأمر الذي يجعلنا في حيرة من أمرهن لماذا الصمت؟». علامة عدم الرضا في العرف العام يعد السكوت علامة الرضا، وفي العرف الخاص حيث عروض الزيجات، يعد علامة القبول والموافقة، لكن في عرف البائعات الآسيويات على قارعة تلك الطرقات، فالأمر مختلف، فالسكوت علامة الرفض، وإعلاء لقيمة الاعتراض. وحسب رؤية حسين، فإن هناك تحفظا كبيرا من قبل البائعات الروسيات، حيث إنهن لا يتمادين في الحديث مع المشترين، ولا يكثرن الكلام، ما يجعل الاحترام سائدا في حوار البيع «البائعات يركزن على البيع وليس لهن مقصد غيره، ولا أظن أن دعوات الزواج مهما كانت، مقبولة من طرفهن، لأن الإجابة المعروفة مسبقا حسب علمي، هي الصمت، الذي يعني الرفض وفق عرفهن، في ظل الكثير من المعوقات المعروفة مسبقا، لكن بعضهم يتشبث بالخيط الأخير، أو السحابة العابرة، لماذا؟ لا أدري، فهم الأدرى بمثل تلك الرغبات». دعابة خطيرة وإذا كان المشتري محمد الفقيه، لا يرى ضمانات حقيقية لمثل تلك الزيجيات، فإنه يعترف بأن نوعا من الدعابة بات ينتشر في أوساط المشترين والبائعات الآسيويات، يتعلق بعرض الزواج، الذي ينتهي بالرفض دائما «حتى الآن لم أسمع قط عن عقد قران بهذه الشكلية، لذا أعتبر كل ما يقال على مسامع بعضهم، أو خفية، مجرد دعابة عابرين لا ترتقي للعروض الحقيقية، خاصة في ظل غياب الكثير من الضمانات، والتساؤلات: أين سيعيش الزوجان؟ ومن الذي سيكتب عقد النكاح؟ وعلى أي مذهب؟ ومسألة الزواج من وافدة مقيمة ربما أمر صعب، فما بالنا بوافدة أتت فقط للحج والبيع؟ وما أقتنع به أن كل هؤلاء الحاجات يبعن من أجل تأمين مصاريف العودة والعيش من جديد في بلادهن، التي تقبع تحت وطأة الفقر المدقع». أين الضمانات؟ ويرى فقيه أن مجرد تحويل الدعابة إلى فكرة قابلة للتنفيذ في محيط بعض الشباب، خصوصا أبناء البلد، في غاية الخطورة «أعتبرها مسألة غاية في الخطأ، فأين الضمانات؟ و أين الاستقرار؟ أم أنها مجرد شهوة مستهلكة، وعلى الشباب التعرف على الزواج الشرعي الذي يعد الأفضل بدلا من المغامرات التي لا تحمد عقباها». ولا يتوقف أبوعبدالله كثيرا عند مشروع الزواج بتفسيره العام، لأنه «في حد ذاته لا غبار عليه، لكن تبقى هناك بعض الإشكاليات خاصة إن كان الزوج سعوديا حيث يتطلب الأمر تصريحا خاصا». مجرد شائعة قريبا من صاحبات القرار، تنفي الحاجة الآسيوية «التي تتمتع بإتقان اللغة العربية واضحة المعالم»، التي افترشت أحد المواقع في قلب جدة، نيتها وبنات جلدتها في الارتباط بالعابرين، بعيدا عن تحديد أي جنسيات «نأتي إلى هنا طلبا للرزق عبر ترويج منتجاتنا، وليس لنا هدف سوى العودة بأكبر قدر ممكن من الغلة, أو كما يقولون منافع الحج، ونحن عادة لا نتفاوض كثيرا حول البيع، ونعطي زبائننا المختصر المفيد في البيع والشراء». سألناها إن كان الأخريات يعتبرن الارتباط بالقاطنين في بلاد الحرمين الشريفين أثمن غلة؟ فردت بالتأكيد على أن جميعهن يعتبرن البقاء على هذه الأراضي الطيبة لا يقدر بثمن، ولكن ليس بهذه الطريقة «لا يعرف الكثيرون أن معظمنا متزوجات، وهؤلاء الرجال هم محارمنا، فكيف نفكر في الارتباط بأحد؟ أظن كل ما يقال عن رغبات من هنا وهناك ليست إلا مجرد شائعات تتداول بين حين وآخر، إلا أنني بكل صدق لم أسمع بها، ولم أعرف فتاة من بنات جلدتنا اقترنت بأي شخص يقطن في هذه البلاد، سواء سعودي أو من جنسيات أخرى». شاهد على الصفقات لكن السعودي إسماعيل بهاء الدين خالفها، مشددا على أن مثل هذه الزيجات أصبحت عادية، ومتكررة «شهدت منذ خمسة أعوام على زواج شاب سعودي من فتاة آسيوية، وفدت للحج بصحبة والدها، وكل أفراد أسرتها»، مستدركا بأن عدة عوائق تحول دون استمرار نجاح مثل تلك الزيجات «وأجدها تبرز أحيانا في بعض الإشكالات الإدارية». ولم يخف الحاج الآسيوي الذي يحمل اسما عربيا «صلاح حسين»، رغبته في أن يبقى وابنته في البقاع المقدسة طيلة حياتهما، لكنه حذر من أن تكون تلك الرغبة على حساب سعادتها «لا أمانع في تزويج إحدى بناتي لأي شاب سعودي، بشرط أن يكون على خلق ودين واستقامة وأمانة، ولن أتردد في قبول أي شاب يتوافق مع المعايير المعروفة، لكن رغبتي الشديدة في الإقامة في البقاع المقدسة، حتما لن تكون على حساب ابنتي وسعادتها». طمعا في البركة وفي الاتجاه الآخر لا يخفي شباب آسيويون رغبتهم في الزواج من بنات البلد، سواء السعوديات أو المقيمات بجوار الأراضي المقدسة، بل يعدون الأمر طمعا في البركة. فيما يفضل من تقاسموا رحلة العمر، الرغبة في إتمام النكاح بعد أداء المناسك، في هدف البركة ذاته، في ظل عدم تحفظهم على مشروعية ذلك، لأنه يأتي ضمن منافع الحج مثل التجارة والتعارف مع المسلمين «لذلك فهي مشروعة متى ما اكتملت أركانها وكانت بموافقة كل أطرافها، مع أهمية الالتزام ببعض الأنظمة التي تدخل في هذا الجانب». محمد خازمايف، من داغستان، أحد المؤيدين لإتمام الزيجات خلال فترة ما بعد الحج «لا أرى أي بأس في تزويج بعض الحجاج بناتهم خلال وجودهم بالديار المقدسة، وبعد انتهائهم من مناسك حجهم، متى ما كانت جميع أطرافه متراضية، وأصدقك القول إنني لو قابلت من ترضى بي خلال وجودي في هذه الديار الطاهرة، فلن أتردد في الشروع في إتمام زواجي منها بشرط أن تكون على خلق ودين وتعي شؤون الحياة الزوجية». بنت البلد أفضل لكن زبير خازمايف، يخالف شقيقه، ويفضل عقد قرانه على إحدى بنات بلده، بحجة اختلاف العادات والتقاليد «سمعت عن حجاج يتممون زيجات بناتهم أثناء وجودهم بالأراضي المقدسة في مواسم الحج والعمرة، لكن ذلك يتم بناء على اتفاق مسبق بين ذوي الفتاة والمتقدم لها». زيجات قليلة ويعترف الحاج الآسيوي صلاح الدين، بوجود بعض الزيجات على هامش موسم الحج، نافيا وجود سماسرة أو وسطاء لعقد مثل هذه الزيجات «الزيجات التي تحدث بين صفوف الحجاج قليلة، وتكون بناء على اتفاقات مسبقة بين أطرافها على اختيار مكةالمكرمة أو المدينةالمنورة، مسرحا لعقد القران بسبب الرغبة في جلب البركة، أو انتهاز هذه الأيام العظيمة والتجمع الأكبر للمسلمين». زواج شرعي كما بين الداعية الإسلامي الشيخ أحمد أبوعلوة الشهراني، ما توصل له المفسرون من أنهم جعلوا من منافع الحج: الخطبة والنكاح، على ألا يتم عقد القران إلا بعد التحلل من الحج «لا أرى في مثل هذه الزيجات ما يتعارض مع الدين، إن جاءت بعد تراض تام بين جميع الأطراف المعنية، وبعيدا عن المصالح الدنيوية ومطامعها الأخرى، فمن مزايا مثل هذه الزيجات اختلاط الشعوب ببعضها وتأليف قلوبها فيما بينها وربط أواصر التراحم». ولا يرى المأذون الشرعي ربيع عالي الشريف، حرجا في مثل هذه الزيجات «إذا اكتملت أركانها الشرعية فهي صحيحة، لكن هناك أنظمة يتوجب على المواطنين استكمالها من أجل صياغة عقد الزواج الشرعي بصفته النظامية، أما لغير المواطنين فيكفيهم توثيقه شرعا بسجلات المحكمة الشرعية». غياب الولي ويرى المأذون الشرعي حسن بن محمد ضرورة اكتمال شروط الزواج في أي زيجة «أين ولي تلك المرأة؟ وأين تكتب تلك العقود؟ أعتقد أن الزواج المكتملة فيه الشروط هو الأصح، ومثل تلك الزيجات التي تتم غالبا على الأرصفة دون أي مقومات، لا تعود بالنفع على الأزواج الشباب، ولها عقبات كبيرة في المستقبل بسبب المخالفات الصريحة، التي من أهمها عدم موافقة ولي الأمر, وأنصح الشباب بالتريث قبل التفكير في الزواج، والسؤال قبله، كي لا يندموا على تصرفات طائشة في كثير من الأحيان». موافقة رسمية وشدد الناطق الإعلامي لجوازات منطقة مكةالمكرمة الرائد محمد الحسين، على ضرورة حصول المواطن الراغب في الاقتران بغير السعودية على التصريح اللازم من الجهات المختصة، حتى يستخرج الإقامة النظامية لزوجته، ليتجنب الوقوع في إشكاليات لاحقة ربما تصل إلى ترحيل الزوجة وتعرضه للسجن والغرامة، أو كليهما معا