في عام 1964، وفي تصفيات أمريكا الجنوبية المؤهلة لأولمبياد طوكيو، التقى منتخبا الأرجنتين والبيرو، وأقيمت المباراة بالعاصمة البيروية «ليما» بحضور جماهيري كثيف. تقدم المنتخب الأرجنتيني في البداية بهدف واستطاع المحافظة على هذا التقدم، ولكن قبل نهاية المباراة بدقيقتين تمكن المنتخب البيروفي من تسجيل هدف التعادل. وكان من الممكن أن تنتهي المباراة نهاية طبيعية لولا أن الحكم ألغى الهدف. فتسبب ذلك في حدوث هيجان وثوران بين الجماهير تطور لواحدة من أسوأ حالات شغب الملاعب في التاريخ.. وكانت النتيجة مقتل نحو 300 مشجع! شغب الملاعب ليس النتيجة الوحيدة الخطيرة للتعصب الرياضي. ففي بعض الحالات وصل التعصب للقتل العمد المباشر، كما في حادثة مقتل المدافع الكولومبي أندرياس إسكوبار بسبب تسجيله بالخطأ هدفا في مرمى منتخبه وحرمانه بذلك من التأهل لدور ال16 في نهائيات كأس العالم 94. هذه الحوادث، على جسامتها، تعتبر تهريج أطفال إذا ما قورنت بالأحداث التي تلت المباراة الفاصلة بين السلفادور والهندوراس في تصفيات كأس العالم 1970، بعد تصاعد حدة التعصب الرياضي بين جماهير المنتخبين إلى درجة اندلاع الحرب بين الدولتين بعد المباراة مباشرة ولمدة أربعة أيام متواصلة! وقد وصل عدد القتلى في هذه المهزلة إلى ما يقارب الثلاثة آلاف.. ولا تزال هذه الحادثة حتى الآن تسمى ب«حرب كرة القدم». هدف فلسفة التعصب الرياضي إن غايتي في هذا المقال هي البحث عن أسباب وجذور التعصب الرياضي. وأعتقد أن لهذا البحث فائدة تستحق العناء؛ فربما مكنتنا النتائج من أن نعيد توجيه هذا الحماس لقضايا أكثر أهمية. تخيل لو استطعنا أن نجعل الجماهير تتحمس لقضايا بيئية مثل حماسها لفريقها المفضل؟ تخيل لو استطعنا أن نجعل الجماهير تشتري الكتب بدرجة إقبالها على شراء تذاكر المباريات؟ تخيل لو استطعنا أن نجعل الجماهير تحضر المناسبات الثقافية بكثافة حضورها في الملاعب؟ ربما تعتقد أن كلامي هذا مبالغ فيه وغير منطقي. لكن اسمح لي أن أذكرك بأنه في العصر القوطي «عصر شكسبير» كانت أهمية المسرح عند عامة الناس لا تقل عن أهمية كرة القدم الآن. وأنه عند العرب قديما كان لظهور شاعر فحل عند القبيلة من الأهمية ما يقارب الآن أهمية ظهور مهاجم موهوب. سحر الرياضة.. من أين؟ حتى نستطيع أن نفهم كيف ينتج التعصب الرياضي، لا بد أن نبدأ بالتساؤل عن سر هذا التعلق اللامعقول بالرياضة؟ ما الذي تفعله الرياضة لتسحر الناس هكذا؟ كيف يخلق هذا الرابط الذي يربط الجمهور بمصير الفريق إلى درجة لا تكاد تصدق؟ لو سبق لك أن حضرت مباراة ذات أحداث درامية فمن المؤكد أنك شاهدت رجالا غلاظا شدادا يدخلون في نوبة بكاء عاطفية بعد هدف فوز في آخر الدقائق. لا بد أنك شاهدت انهيارات عصبية وإغماءات تحدث بعد خسارة مفاجئة. لا بد أنك شاهدت الخوف والجزع والدعاء والابتهال الذي يغشى الجماهير أثناء تنفيذ ركلات الترجيح.. من أين يأتي هذا السحر؟ هناك أسباب لا نهائية لتفسير جاذبية الرياضة، مثل كونها وسيلة ترفيه أساسية، التركيز الإعلامي المسلط عليها، الثراء، والشهرة، والنفوذ المصاحب لها وغيرها الكثير. رغم أن هذه الأسباب تفسر شيوع متابعة الرياضة، لكنها لا تفسر التعصب الرياضي. فعلى سبيل المثال، مجال السينما يمتلك كل هذه الخصائص، ورغم ذلك لا نشاهد تعصبات سينمائية. ولا أظن أن أحدا شاهد أعمال شغب لأن «آفاتار» لم يفز بأوسكار أفضل فيلم لهذا العام، أو شاهد احتفالات في الشوارع لأن «مارتن سكورسيزي» فاز بأوسكار أفضل مخرج عام 2006. هناك أسباب أعمق من ذلك تصنع جنون الرياضة. في رأيي المتواضع إن الأسباب الأربعة التالية هي أهم ما يصنع سحر الرياضة ويخلق التعصب والحماس والارتباط الخارق بالفرق الرياضية: -1 البحث عن الانتصار: إن «غريزة الانتصار» لا تقل أهمية عن غريزة البقاء عند الإنسان - الغريزة الأهم - بل إن الغريزتين مرتبطتان بشكل جوهري. فالبقاء دائما للمنتصر. على صعيد الحياة اليومية يستطيع الإنسان أن يحقق نجاحات أكاديمية، مهنية، مادية.. إلخ. لكن في هذا السياق فإن «النجاح» و«الانتصار» هما شيئان مختلفان. كي تشبع غريزة الانتصار لا بد أن يكون هناك مهزوم.. لا بد أن تدحر شخصا ما.. وهو ما لا يتوافر لنا في نجاحاتنا الشخصية التي لا تتجاوز كونها مجرد انضباط وجدية ذاتية. إن حياتنا اليومية بكل رتابتها وانسياقها لا توفر أي فرص انتصارات أو حتى فرص هزائم لنا. بينما الرياضة توفر لنا كل ذلك وأكثر.. فريقك ينتصر أحيانا ويهشم رؤوس الفرق الأخرى، وفي أحيان مغايرة يخرج متحطما متناثرا ككتيبة حربية قاتلت حتى الرمق الأخير. إن لاعبك المفضل الذي بدا منكسرا ذليلا في المباراة السابقة استطاع في هذه المباراة أن يجندل الخصوم واحدا تلو الآخر قبل أن يمزق شباك الخصم شر تمزيق. هذه هي لذة الانتصار.. لا بد أن تهزم أحدا.. قد يبدو الأمر قبيحا.. لكن هذه هي الطبيعة البشرية. إن للانتصار أيضا لذة جسدية نفتقدها وبشدة في حياتنا اليومية.. ولا نجدها إلا في الحماس والتعصب الرياضي. -2 الرغبة في الحديث: في زمن التخصص هذا، أصبح من الصعب جدا أن تملك وجهة نظر في أي شيء. كل شيء صار معقدا ومتداخلا وسريا وتآمريا لدرجة أن لا أحد يعرف بالضبط ما الذي يجري. ناهيك أن يكون له وجهة نظر فيه. في الحقيقة إن سهولة فهم الرياضة لا تنبع فقط من كونها نشاطا بسيطا. إن مهووسي الرياضة يستطيعون استرجاع كمية مذهلة من الحقائق الرياضية؛ فهم يتذكرون التفاصيل الدقيقة لمباريات أقيمت منذ أكثر من 15 عاما. ولديهم أيضا قدرة عجيبة على معالجة هذه الحقائق؛ فعند حساب نقاط الفوز والتعادل واحتمالات التأهل ينقلبون لعباقرة إحصاء واحتمالات. ما سر هذه القدرة الخارقة في التعامل مع المعلومات المتعلقة بالرياضة؟ في الواقع إن الرياضة مرتبطة بالأشخاص «لاعبين، مدربين، إداريين، حكام» وأدمغتنا تستطيع معالجة المعلومات المرتبطة بالأشخاص أفضل بكثير من أي صنف آخر من المعلومات. -3 الرغبة في الانتماء: مشكلة الانتماء عند البشر يلخصها بيت الشعر هذا للشاعر اليمني عبدالله البردوني: «يمانيون في المنفى، ومنفيون في اليمن … جنوبيون في صنعاء شماليون في عدن». عندما يشاركك المحيطون بك انتماءك فأنت في الغالب لن تشعر بقيمته وبذلك لن تشبع رغبتك في الانتماء. إذا كنت يمنيا وتسكن في اليمن فأنت لن تشعر بيمنيتك. لكنك لو انتقلت لخارج اليمن سوف تشعر تلقائيا بهذا الانتماء. وهذه حال معظم انتماءاتنا؛ كلها فاترة لأن كل من حولنا يشاركنا إياها. الرياضة توفر حلا فعالا لهذه المشكلة. الكل شغوف بالرياضة. لكن كل زمرة تشجع فريقا مختلفا «أنا هلالي وأنت نصراوي، أنت زملكاوي وأنا أهلاوي»، وبهذا يبقى لهيب الانتماء الرياضي مشتعلا بعكس أي انتماء آخر، وبهذا تشبع الرياضة الرغبة في الانتماء. -4 الرغبة في الثورة: الرياضة كما يراها اختصاصيو علم الاجتماع الرياضي - أجل هناك تخصص بهذا الاسم! - هي نسخة مصغرة من المجتمع. هناك اللاعبون المميزون، هناك اللاعبون السيئون، هناك المال، هناك السلطة، هناك الأيديولوجيات، هناك القوانين، هناك الجهات التنظيمية. بل في الغالب يكون هذا المجتمع الصغير انعكاسا للمجتمع الحقيقي الأكبر؛ فعلى سبيل المثال، حتى القرن ال19 لم تكن المجتمعات عموما متسامحة مع النساء، لذلك كانت النساء في مجتمع الرياضة الأصغر ممنوعات من المشاركة. من أكثر الخصائص التي تشد المشجعين للرياضة هي الرغبة في الثورة على هذا النظام الاجتماعي المصغر، والرغبة في الانقلاب على قيمه، والتمرد عليه، وعدم الامتثال لأعرافه وتقاليده. لنبدأ بالثورة على اللغة. في الحياة اليومية ننتقي كلماتنا بعناية، ونحرص على أن تكون مؤدبة ورقيقة. لكن في عالم الرياضة نستطيع أن نثور على هذه اللغة. تأمل معي هذه المفردات الرياضية القتالية القاسية حتى تعرف ما أقصد: رأس حربة، طرد، ركلة جزاء، قائد الفريق، المرمى، ضربة مباشرة، تسلل.. إنها بلا أدنى شك مفردات حرب.. ومن جهة أخرى، فجلوسك في المدرج الرياضي يعطيك تصريحا بلفظ أسوأ ما يمكن أن تجود به قريحتك من شتائم، وتصريحا بالصراخ والسب بأعلى صوت «بجد.. أين يمكن أن تجد مكان آخر تستطيع أن تصارخ وتشتم فيه بهذه السهولة؟». الرياضة أيضا تسمح للمشجعين بالثورة على السلطات التنفيذية.. ليست ركلة جزاء! ليس تسللا! هذا الهدف غير صحيح! هذا الحكم مرتش! هذا مدرب غبي! رئيس النادي لا يعرف رأسه من قدميه! الرياضة أيضا تسمح للمشجعين بالثورة على الأخلاق نفسها، فعلى سبيل المثال لا يوجد أرجنتيني واحد لا يفخر بهدف مارادونا الذي سجله بيده على إنجلترا في نهائيات كأس العالم 1986.. حتى وهو هدف مغشوش. تطبيقات للتعصب الرياضي في مجالات مختلفة للانتماء والتعصب الرياضي جذور وأسباب متعددة، لكني سوف أقتصر مقالي على تلك الأربعة لاعتقادي أنها الأهم. إن السؤال المحوري هنا هو: هل نستطيع استخدام هذه العناصر التي خلقت الحماس والتعصب الرياضي لخلق حماس وولاء وتعصب لقضايا أكبر وأهم؟ أعتقد أنه بالإمكان فعل ذلك «لذا كتبت هذه الدوينة». لنأخذ التعليم على سبيل المثال ونحلله بناء على عناصر التعصب الأربعة. هل يجد الطلاب أي انتصار لهم في تعليمهم؟ هل يرى الطلاب في مقرراتهم الدراسية مادة خصبة للحديث وتبادل وجهات النظر؟ هل يوجد لدى الطلاب أي انتماء لمؤسساتهم التعليمية أو المادة العلمية التي تقدم لهم؟ هل يجد الطلاب فيما يتعلمونه عونا لهم في انتقاد بعض أوجه تراثهم والثورة عليه؟.. للأسف، كل إجابات هذه الأسئلة هي «لا». برأيك لو استطعنا أن نحول إجابات كل هذه الأسئلة ل «نعم»، هل تعتقد أن حماس الطلاب لتعليمهم سوف يقل بأي حال من الأحوال عن حماسهم وولائهم للرياضة؟ وقس هذا على أي قضية أخرى. مدونة سعود العمر http: //www.saudomar.com