يعتقد أرسطو أن الصداقة ضرورية للإنسان السعيد أكثر من الإنسان التعيس، ذاك أن السعادة تزيد وتتضاعف بمشاركة الآخرين فيها، والصداقة أكثر أهمية في نظره من العدالة. إذ إنه لا حاجة للعدالة عندما يكون الناس أصدقاء. ومع ذلك فإن الصداقة تعني قلة الأصدقاء لا كثرتهم! لأن الذي لديه أصدقاء كثيرون لا صديق له. لكن حين تتأمل مفهوم الصداقة اليوم في حياة الكثيرين تجدها داخل جهاز صغير يجمع البعض فيه أكثر من ألف صديق يحشرهم كلهم في جيبه ليحملهم معه أينما ذهب، يشاركهم كل لحظاته، ويبوح بأسراره لأشخاص لا يعرف عنهم سوى ما يقولون، ولا يسمع منهم سوى رسم الكلمات التي تظهر أمامه، فلا يلمس حقيقة وجودهم في حياته، لأنه يتوهم بأن ما يفترضه خياله عنهم أجمل بكثير من أن يكون حقيقة. وتراهم كثيرا في الشوارع وهم مطأطئو الرؤوس، يتبادلون الرسائل وهم يمشون بخطوات قصيرة وسريعة، يرمون بالكلمات وهم محنيو الظهور، أحيانا تتقاطع طرقهم ببعض في العالم الحقيقي فيتصادمون كالقردة ولا يدركون أنهم أصدقاء! لأنهم انشغلوا بالتحديق في تلك الأجهزة طويلا، ليواصلوا الضغط على مفاتيحها بسرعة، وكأن العالم على وشك الانهيار! فباتت هذه الصداقة تسرق منهم أوقاتا كانت من المفترض أن تعاش من خلال وجودهم الحقيقي، وليس من خلف شاشات صغيرة تجوب بهم فضاءات جامدة خارجة عن حدود عالمنا. ومع مرور الوقت يتساقط تأثيرهم الحقيقي من حولك، ويتلاشى وجودهم الفعلي عنك، فتعجز عن الإمساك بهم ليبقى فقط ركام الأجساد حاضرا! لكن ما فائدة وجود تلك الأجساد المتراصة حولك إذا كانت عقولهم تولي تلك الأزرار في لوحة المفاتيح اهتماما أكثر منك، وتظن أن الأحرف التي تتراص أمام الشاشة أشد عمقا من وجودك؟ فكم هو مؤلم أن تشعر بغربة تسحق وجودك في ظل وجود الآخرين حولك. ولأن الصداقة روح واحدة في جسدين كما يقول أرسطو، إلا أن الأجساد حين تلتقي وتتماس تترك أثرا لا يمكن لأي جهاز أو وسيلة أخرى أن تعوضنا عنه.