لا أعرف أين قرأت، أمس، خبرا عن دراسة جديدة أكدت أن الكذب يثير تضخما في الأنف يلجئ صاحبه إلى حكه بقوة. كنت قرأت أيضا في فترة سابقة أن عميد أطباء الأنف في شيكاغو الدكتور إلين هيرش، أثبت أن أنف الإنسان يتضخم بالفعل حين يكذب ويكبر حين يتدفق إليه مزيد من الدماء فيصبح أكثر احمرارا وإثارة للحكة، مستشهدا بمقابلة تليفزيونية مع الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون حين تورط في فضيحة لوينسكي. وللأنف مع الكذب قصص تمتد إلى أسطورة أوروبية تتحدث عن الغلام بينيكولا الذي يطول أنفه مع كل كذبة، في حين يقصر ويعود إلى حجمه الطبيعي حين يقول الحقيقة. عالميا يمكن أن يصنف أنف «سيرانو دي برجراك» الشخصية النبيلة في رواية الفرنسي إدمون روستان التي نقلها المنفلوطي إلى العربية، على أنه الأنف الأشهر في العالم. كان سيرانو رجلا شجاعا وفارسا نبيلا وشاعرا مبدعا، غير أنه كان دميم الخلقة، وحين تجرأ أحدهم على نقد أنفه الكبير بدأ سيرانو في سخرية بالغة يعلم خصمه أساليب مذهلة في هجاء الأنف احتلت صفحات طوالا كانت في رأيي أفضل ما في الرواية. كان سيرانو صاحب أكبر أنف في العالم، لكنه لم يكن كاذبا على الإطلاق، وكانت خطيئته الوحيدة أنه لم يبح بحبه لابنة عمه ومات وهو يدافع عن عشيقها. ورغم حجمه الهائل إلا أن سيرانو لم يتنفس الحب بأنفه، بل بكل جوارحه. وليس الأنف مجرى الهواء وطريق الحياة إلى الجسد فحسب، بل إنه مقياس للجمال. وعند العرب لا يكتمل حسن إلا بأنف دقيق الأرنبة، أشم كسيف، وناعم كوردة. ولأنه الجارحة الأكثر شموخا تستغل العرب الأنف في التحقير من الشخص والإيغال في إذلاله فتقول «رغم أنف فلان». وعلى أية حال، فإن خبر حك الأنف عند الكذب لا يبشر بخير؛ إذ سيمضي كثيرون منا- لو صدقت الدراسة- جل اليوم أو كله في حك أنوفهم، حتى لا يغدو لها أثر، وهي حالة يمكن أن نصبح معها بشرا بوجوه مختلفة عن سائر خلق الله، ولن يلبث أحدنا أن يصحو وهو يتحسس وجهه متسائلا بحرقة: أين أنفي؟ يهرش مدمنو المخدرات أياديهم ورقابهم، وسيهرش مدمنو الكذب أنوفهم في رغبة ملحة في سرد جرعة من الكذب. والواقع يقول إنه لا يكذب، يكذب على الأقل حين قال إنه لا يكذب. وبالطبع فإن كثيرين لو لم يجدوا أحدا يمارسون هواية الكذب معه وعليه، فإن احتمالا قويا أن ينزووا في جانب ما ليمارسوا الكذب على أنفسهم. ليس شرطا أن يكون من أنوفنا، لكننا ينبغي أن نعترف أننا نتنفس الأكاذيب مع كل ذرات الأوكسجين المحيطة. وسواء أهرشوا أنوفهم أم لم يفعلوا، فإن الكذابين قدرنا ومنا شئنا أم أبينا، ف«أنفك منك ولو كان أجدع».