أذكر صغيرا وجود «بلكونة» في بيتنا بحيّ النسيم بالرياض، هي متواضعة وصغيرة ولكنها متنفس للبيت بأكمله، كنا نسمر بها، وتنتقل الجلسة العائلية من الصالة إليها حين نريدها أكثر أريحية، نتناول هناك القهوة والشاي والمكسرات، ونستمع إلى صوت الكاسيت، وحتى ألعابنا صغارا والمكعبات في الزاوية البعيدة، وكنا نستخدمها كذلك لتجفيف ونشر الملابس المغسولة في الهواء الطلق، نسرع بعد المدرسة إليها حاملين الحلويات والعصيرات لنتفرج على الشارع والناس، منذ انتقل والدي «رحمه الله» إلى حيٍّ آخر افتقدتها، بحثت عنها وسألته حينها باستغراب: لا توجد بلكونة؟! اليوم وبعد أكثر من 20 عاما على آخر مرة عانقت فيها «البلكونة» في الرياض، يعاودني حنين إليها، أتجول بالسيارة في أحياء وشوارع الرياض القديمة بحثا عنها، لأجدها هناك، بلونيها الأخضر والبرتقالي غالبا، ما زالت تجاهد عوامل التعدّي و«الإخفاء»، يجب عليك أن تبحث عنها جيدا، وأن تدقق النظر، فلم تعد كما كانت، فقد أحيطت وأغلقت مساحاتها بالإسمنت والبلوك، لم تعد البلكونات مساحات فضاء، أو متنفسا، فقد «كُتِمَت» بفعل فاعل، وإرادة جماعية لجيلٍ أهملها، ورميت بتهمٍ عديدة تحت ذرائع شتى، بدءًا ب «كشف العورات»، وانتهاءً ب «خصوصية المجتمع السعودي»! لتختفي تقريبا وتكتفي ببعض أثر. البلكونة كالبشر، تتنفسهم، وتحتضنهم حين تضيق بهم جدران المنزل، تذكرهم بأن الحياة فسيحة، فالبلكونة هي ذاكرة مجتمع، حكاياته وثقافاته، مجتمع «سيق» نحو انغلاقه وانعزاله داخل جدران بيته، عازفا عن التواصل، ليمسي بعد حذفه «البلكونة» يبني «الشنكو» على سوره، ويضيق ذرعا إن تجاوزت مقدمة سيارة جاره لحدود موقف منزله! عندما سألت والدي عن البلكونة، لا أذكر تحديدا ما كانت إجابته حينها، ولكني عرفت الآن أن زمن «البلكونة» الجميل قد سُرق!