يخطئ من يراهن على أن تشديد الحصار على قطاع غزه، سوف يسقط ثوابت الشعب الفلسطيني، سواء نجح هذا الحصار في إسقاط حكومة حماس أو لم ينجح. ولسنا ممن يراهن على نجاح القائمين على هذا الحصار أو فشلهم في بلوغ غاياتهم، لكننا نجزم بأن الفساد والفلتان الأمني وكل الأثافي والآفات التي كان زبانية أجهزة الاستخبار والأمن التابعة لعباس وحكومات "فتح أوسلو" السابقة وقادتها يرتكبونها بحق سكان القطاع (أمثال محمد دحلان وأبو شباك)، قد ذهبت ريحها إلى غير رجعة، ولن يقبل أحد من أبناء غزه وفصائل المقاومة الفلسطينية أن تعود أبداًّ مهما كلفهم ذلك من تضحيات. ويخطئ أيضاً من يظن أن انفجار الوضع في قطاع غزه إذا ما وقع، سيقتصر على سكانه فقط ، وإنما سيشمل أيضاً أهل الضفة الغربية، برغم إدراكهم أنهم سيتعرضون لاعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي التي ما زالت تفرض سيطرتها على الضفة، كما سيتعرضون لقسوة وتعسف أشد، مما يسمون بقوات الأمن الوطني التابعة للسلطة الفلسطينية. ولسنا بحاجة للتذكير بأن هذه القوات تخضع منذ فترة لبرامج تدريبية خاصة خطط لها الجنرال الأمريكي دايتون المقيم في رام الله ويشرف على تطبيقها، وهي معنية بكيفية التصدي لأفراد الشعب الفلسطيني حين يثورون أو يتظاهرون احتجاجا على المباحثات العبثية التي يجريها عباس وحاشيته مع العدو. أما محاولة المناضلين تفعيل خيار مقاومة الاحتلال في الضفة (الذي اسقطه عباس نهائياً من أجندة حكومة فياض)، فبات المستهدف الرئيس الذي تسعى مخططات الجنرال دايتون الأمريكي النيل منه التصدي له والقضاء عليه، وتدمير كل القوى الفلسطينية الوطنية التي تقف وراءه. ولن نستغرب - إذا ما وقع الانفجار المرتقب - أن تقوم التجمعات الفلسطيينية والعربية في مختلف بلدان العالم، بمظاهرات واحتجاجات تأييداً للمطالبة بفك الحصار عن القطاع، والتي ستكون بمثابة انتفاضة ثالثة تعبر عن رفض الفلسطينيين لكل أشكال العنف والصلف والجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال ومن والاها بحقهم. كما تعبر عن رفضهم لمحاولات هؤلاء تركيع الشعب الفلسطيني، وإجباره على التخلي عن الثوابت التي تعكس إصراره على استعادة حقوقه كاملة أولاً، ورفضه الموت البطيء جوعاً نتيجة التصعيد المبرمج للحصار الذي تفرضه إسرائيل وأمريكا والدول الأوروبية عليه وتشديده ثانياً . الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع : تجمع التقارير الصحفية وتلك التي تصدر عن المؤسسات المدنية المعنية بحقوق الإنسان والهيئة الأممية، أن الوضع الاقتصادي والخدمي والإنساني في قطاع غزه، هو في تردٍ مستمرٍ، وقد تجاوز الخطوط الحمراء التي يجد الإنسان الفرد نفسه حيالها مجبراً على القيام بأفعال يائسة يرى فيها الطريق الوحيد لإنقاذ حياته وحياة أهله وذوية من الموت المحتوم، إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه. فالمواد التموينية الأساسية كالدقيق والأرز والسكر والمسلى والزيوت النباتية والمنتوجات الزراعية وألبان الأطفال، لم تعد تكفي لإطعام مليون ونصف المليون نسمة هم مجمل سكان القطاع، لدرجة أن الكثيرين منهم باتوا معرضين للموت البطيء، نتيجة النقص الشديد والمتزايد في الغذاء، أو من سوء التغذية (سمها ما شئت). وهناك أيضاً شحٌّ مخيف في الأدوية، وبخاصة تلك التي تعالج الأمراض المستعصية، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الوفيات بشكل غير طبيعي، إضافة لعجز المستوصفات والمستشفيات عن القيام بكل واجباتها العلاجية نحو المرضى والمصابين، نتيجة النقص الشديد في المعدات الطبية والأدوية والوقود اللازم لتشغيل مولدات الكهرباء الاحتياطية في حال انقطار التيار الكهربائي القادم من إسرائيل، أو توقف محطات توليد الكهرباء بالقطاع عن العمل نتيجة نفاذ الوقود. وليس ثمة من يجهل أن إسرائيل باتت تستخدم إمدادات النفط ومشتقاته للقطاع، كورقة ضاغطة لتشديد الحصار على القطاع. وقد تمادت مؤخراً في استخدام هذه الورقة بصورة تعطلت معها الدراسة في المعاهد والمدارس والجامعات، نتيجة توقف المركبات عن نقل الطلبة وغيرهم لنفاذ الوقود، كما تدنت الخدمات العلاجية في المستشفيات نتيجة انقطاع التيار الكهربائي إضافة للنقص المروع في الأدوية كما ذكرنا. أضف إلى ذلك، الحظر الشديد الذي يفرضه الكيان العبري على وصول المساعدات النقدية والعينية لسكان القطاع أيا كان مصدرها، وكذلك الضغوط التي تمارسها أمريكا على الدول العربية والبنوك العاملة فيها، بهدف منعها من تحويل الأموال لأي جهة في القطاع سواء لحكومة حماس أو للمواطنين. لماذا إصرار أمريكا وإسرائيل على هذا الحصار ؟ من المعروف أن المرحلة الأولى لهذا الحصار بدأت حين شكلت حماس أول وزارة لها، بعد فوزها في الانتخابات التشريعية التي جرت في الضفة والقطاع عام 2006. وعلى إثر ذلك، امتنعت الدول المانحة عن إرسال المساعدات المالية والاقتصادية إلى حكومة حماس بسبب رفضها للشروط التي وضعتها اللجنة الرباعية (المكلفة بمتابعة تنفيذ مبادرة خريطة الطريق) كي يتم الاعتراف بها والتعامل معها، وهي تحديداً: الاعتراف بإسرائيل، والتخلي عن العنف في مقاومة الاحتلال ونبذ الإرهاب، والالتزام بجميع الاتفاقات التي أبرمتها الحكومات الفلسطينية السابقة مع الكيان العبري. ونتيجةً لرفض حماس لتلك الشروط ، ظلت وحكومتها في قائمة المنظمات الإرهابية التي يحظر التعامل معها. لكن هذا الموقف المعادي لحكومة حماس لم ينته عند هذا الحد وبخاصة في قطاع غزه. فقد بدأت بوادر التحركات الأمريكية والإسرائيلية لإسقاط تلك الحكومة وأي حكومة أخرى تشترك فيها حماس، تطفو على السطح. كما ثبت أن المؤسسات الاستخبارية والأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية التي تعمل تحت إمرة مستشار عباس للأمن القومي "محمد دحلان" وأعوانه، كانت وراء تصعيد انتشار الفوضى الأمنية التي سادت الشارع الفلسطيني. وكان الغرض منها إحراج حماس وإظهار عجزها في ضبط الأمن، إضافةً لما قيل عن أن دحلان ومعاونيه كانوا ينسقون مع الأمريكان وإسرائيل من أجل إسقاط حكومة الوحدة الوطنية التي ترئسها حماس، والتي تشكلت بموجب اتفاق مكة. حكومة بلا صلاحيات : من المعروف أن حكومة حماس الأولى وحكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت بعدها بموجب اتفاق مكة ورئسها عضو من حركة حماس، لم تستطع أي منهما تأدية مهامها الطبيعية حيال سكان القطاع، وبخاصة في ما يتعلق بتوفير الأمن للمواطنين، والقضاء على الفساد الذي كان مستشريا بصورة مرضية في مؤسسات السلطة وبين قادتها. ذلك أن جميع الأجهزة الأمنية والإعلامية والمالية، كانت - بموجب قرار صدر عن الرئيس عباس - تتبع الجهاز الرئاسي ، ما حرم كلا الحكومتين من الوسائل التي تعينها في القضاء على الفلتان الأمني الذي كان يتصاعد بمعدلات سريعة بفعل الأجهزة الأمنية والاستخبارية (وبخاصة أجهزة الأمن الوقائي) التي كانت تعمل تحت إمرة دحلان وتوجيهاته. وحين استشعرت حماس أنها باتت المستهدف الرئيس لقادة تلك الأجهزة، قامت في يونيو الماضي 2007 بالاستيلاء على السلطة، وباشرت العمل في تطهير المؤسسات الأمنية والأجهزة الحكومية من الفساد والقضاء على أوكاره، الأمر الذي شهد به سكان القطاع والعارفون ببواطن الأمور داخل الأراضي المحتلة وخارجها. ومنذ ذلك التاريخ، قامت إسرائيل وأمريكا بغلق المعابر بصورة محكمة، وحوَّلت القطاع إلى سجن كبير لم يشهد التاريخ المعاصر له مثيلاً. كما مارست واشنطن بالذات ضغوطاً هائلة على الدول العربية كي تمنع وصول أية معونات نقدية أو عينية للقطاع، سواء لحكومة حماس أو لسكان القطاع بمختلف أطيافهم السياسية وانتماءاتهم الفصائلية. كما وجهت تهديدات للبنوك التي تحاول التعامل مع حماس وحكومتها، أو تقوم بتحويل أيه أموال لها، وأنذرتها بمقاطعة دولية إن هي فعلت ذلك. ثم زادت أمريكا من هذه الضغوط بحيث أصبح من الصعب على الفلسطينيين العاملين في الخارج، إرسال الأموال لأهلهم وذويهم. وحين استشعرت إسرائيل وأمريكا، أن الإجراءات التي فرضتها لتشديد الحصار على القطاع لم تستطع تفعيله على النحو الذي خُطِّط له، والذي استهدف دفع سكان القطاع للانقلاب على حماس وإسقاط حكومتها، قررتا الغلو في تشديد الحصار بحيث يطال جميع ضرورات الحياة اليومية من غذاء ودواء ومحروقات. وحين وصلت الأوضاع الاقتصادية والإنسانية إلى درجة كبيرة من التردي والانهيار نتيجة الحصار، لم يجد سكان غزه ملجاً لهم سوى عبور الحدود لشراء احتياجاتهم الضرورية من المدن والقرى المصرية، ما دفعهم لنسف الجدار الحديدي الذي أقامته إسرائيل على الحدود مع مصر، والتدفق (بمئات الألوف) نحو تلك المدن والقرى لشراء حاجاتهم الأساسية من الغذاء والدواء والمحروقات، عادوا بعدها دون أن يحدث ما يعكر صفو الأمن أو العلاقات بينهم وبين إخوتهم في مصر. ويحسب للرئيس المصري هنا، أنه أمر بعدم التعرض لتلك الجموع من الفلسطينيين، ومنحها الوقت الكافي للتزود بما تحتاجه من المواد التموينية والأدوية والمحروقات، الأمر الذي لاقى كل احترام وتقدير من الشعب الفلسطيني بكل أطيافه السياسية والفصائلية. الهدف الغائي من الحصار : ليس من شك أن المستهدف الرئيس من تشديد الحصار على قطاع غزه ليس إسقاط حكومة حماس فقط ، وإنما (هو) معاقبة سكانه البالغ عددهم نحو المليون ونصف المليون نسمة وتعريضهم للموت البطيء جوعاً، لا لشيء .. إلاَّ لأنهم لم يثوروا على حكومة الوحدة الوطنية التي أقالها عباس، ولم ينقلبوا على حركة حماس ذاتها. لكن الذين خططوا لفرض هذا الحصار وتشديده على النحو الذي نراه الآن، لم يتحسبوا لأمر خطير، وهو أن أهل القطاع زادوا من دعمهم لحكومة حماس في غزه والوثوق بها والالتفاف حولها، تعبيراً منهم عن رفض الحصار الظالم الذي طال كل مقومات الحياة الإنسانية، ورفضهم لتركيع الشعب الفلسطيني وفرض الحلول الصهيوأمريكية لقضيتهم. والأمر الذي يحز في نفس كل فلسطيني، أن رئيس السلطة الفلسطينية وأتباعه في رام الله وقادة "فتح أوسلو"، هم من أكبر المحرضين على تشديد هذا الحصار. وهم يعلمون جيداً أن التأييد الذي تحظى به حماس من الشعب الفلسطيني كله، ناجم عن طهارة يدها في التعامل مع القضية الفلسطينية من ناحية، وقطع دابر الفساد وطغيان الأجهزة الأمنية التي أذاقت الشعب الفلسطين على يد أزلامه الأمرين، سواء في قطاع غزه أو الضفة الغربية من ناحية أخرى. الانفجار المتوقع لن يمر مرور الكرام : للاعتبارات السابقة وغيرها، نعتقد أن الانفجار المتوقع لن يمر مرور الكرام، بل من المؤكد أن يترك توابع قد تغطي المنطقة بأسرها هذه المرة. صحيح أن منع الأجهزة الأمنية في البلدان العربية تسيير مظاهرات تطالب بفك الحصار عن سكان القطاع وفتح المعابر، أمر وارد وبقوة .. لكن ما هو صحيح أيضاً أن ثمة غضباً وغلياناً سيسيطران على مشاعر الشعوب العربية ومواقفها وإن ظلّت كامنة ومكبوتة، الأمر الذي لا يمكن لعاقل الاستخفاف به أو تجاهله. احراق الورود والازهارفى غزة احتجاجا على الحصار فحين يشعل بوش حربه المتوقعة على ما أسماه بمحور الشر في المنطقة، والذي يشمل "إيران وسوريا وحزب الله وحركة حماس"، وحين يفعِّل مبدأ "الفوضى البناءة" التي بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية "كوندا ليزا رايس"، فلسوف نشاهد ترجمة مخيفة للسخط والغضب الجاثم فوق صدور الشعوب العربية، لا يعلم نتائجها إلا الله سبحانه وتعالى. هنا لا بد من طرح تساؤلات مشروعة وواجبة : * هل يقبل أي مواطن في أي بلد عربي، أن يتنازل عن شبر واحد من أرضه أو مسكنة أو ممتلكاته، لسارق أجبره يوما على النزوح عنها قسراً؟. فكيف نطلب من الشعب الفلسطيني أن يعترف بشرعية قيام كيان لهذا السارق على الأرض الفلسطينية التي اغتصبها (قهراً) عام 48؟. * ألا يعلم القاصي والداني في هذه المعمورة، أن الغرب كله قد تآمر مع الصهيونية العالمية على انتزاع الأرض الفلسطينية من أصحابها بالقوة، ومارسوا قتل الرجال والصبية والأطفال والنساء وبقر بطون الحبالى وتشويه جثث القتلى، كي يحققوا هدفهم في إخلاء الأرض الفلسطينية من أهلها، وإحلال اليهود الذين اضطهدهم النازي ودول أوروبا محلهم؟. * ألا يعلم العرب الذين يتسابقون نحو تطبيع العلاقات مع الكيان العبري، أن هذا الكيان قد اقتطع الجزء الأهم من جسد وطنهم الكبير، وأنه يربط بين شرقه وغربه؟. * ألا يعرف العرب أن استيلاء العبرانيين على فلسطين التاريخية، ليس سوى خطوة على الطريق نحو تنفيذ المخطط الصهيوني الرامي لإقامة دولة إسرائيل الكبرى (من الفرات إلى النيل)؟. * ألا يدرك العرب أن استمرارهم على هذا الحال من الانقسام والتشرذم واللامبالاة بما يحدث حولهم، من شأنه أن يشجع الصهاينة والغرب على التمادي في محاولة الهيمنة على بلدانهم الواحدة تلو الأخرى، والاستيلاء على ثرواتهم الطبيعية وبخاصة النفطية منها؟. وأخيراً وليس آخراً: على أي أساس يعتقد من يفاوضون العدو الإسرائيلي، أن هذا العدو يمكن أن يقبل بحل يسمح بتجميع سبعة ملايين فلسطيني (من الداخل وفي الشتات) في دولة (حتى لو كانت مسخاً ومقطعة الأوصال) ولا تتجاوز مساحتها ما نسبته 18% من أرض فلسطين التاريخية (في أحسن الأحوال) ، وقد لا تتجاوز (7%) وفقاً لمخططات شارون التي تستهدف اقتطاع 48% من أراضي الضفة الغربية وضمها لإسرائيل 48؟.