هناك تماس بين نظرية الخلق ونظرية التعبير في دائرة التأكيد على الحرية الإبداعية التي صارت الفردية والذاتية في نظرية التعبير متكأها ووَسْمها بما تضافر عند الرومانسيين جميعاً مع ضيقهم بمجتمعاتهم وتقاليدها والترابط بين سمو الفرد لديهم ومقدار تحرره من آثار المجتمع وتقاليده. ولهذا لم يكن صدفة أن تعود عبارة (الفن للفن) التي بدت مقولة أساسية في نظرية الخلق والوجهة الشكلية في النظرية الأدبية ، أول ما تعود، في العصور الحديثة ، إلى عَلَم من أعلام المذهب الرومانسي ، وهو فكتور هوجو (1802-1885) وذلك في مطالبته في مقدمة مجموعته الشعرية (شرقيات) (1829) بحق الشاعر في أن ينشر كتاباً عديم الفائدة من (الشعر الصافي) يلقى به وسط مشاغل الجمهور الصارمة. ولئن فهمنا من ذلك ما نفهمه عادة من تضخُّم الذات الإبداعية الفردية في المسافة الواصلة بين نظرية التعبير والمذهب الرومانسي ، فإن الدلالة في ذلك ترشِّح –أيضاً- قيمة للنص بوصفه إبداعاً لا تتحقق له الصفة الإبداعية بانغماسه وتشارطه الوجود مع الفائدة التي يتم حسابها في العلاقة بغرض اجتماعي. وفي غضون ذلك تصبح الدلالة الشعرية ، وقياساً عليها الأدبية أو الفنية ، دلالة شكل لا معنى، وصورة لا غرض. ولن نستطيع أن نتغاضى –في هذا الصدد- عما يحمله الوصف ب(الشعر الصافي) (وهو وصف أصبح شائعاً –بعد ذلك- بلفظه أو بمعناه في أوصاف الشعر المحض أو النقي... الخ) من مجازية تستعير الصفاء للدلالة على الخلو من الغرضية والنفعية والفائدة ، فهذه الأخيرة من حيث موضعها في مقابل الصفاء ونقيضه ، لا تقف بالمعنى على ما تحدثه من تعكير وتلويث للشعر فلا يبقى صافياً ، بل تفيض عنه إلى الإيحاء باتسامها هي بالتلوُّث وذلك بالتلازم مع المجتمع الذي تحيل عليه ، أي المجتمع المغضوب عليه رومانسياً. لكن هذا المغزى لم يبد بارزاً ومهيمناً على وجهة هوجو ومميزاً لها مثلما حدث لدى تلميذه تيوفيل جوتييه (1811-1872) الذي قال في مقدمة مجموعته الشعرية الأولى (1832) : (إن غاية هذا الكتاب التي يخدمها أن يكون جميلاً). وقال في مقدمة روايته (الآنسة دي موبان) (1835) : (لا وجود لشيء جميل حقاً إلا إذا كان لا فائدة له) ثم ذهب –في المقدمة نفسها- إلى تعليل ذلك الفصل بين الجميل والمفيد بأن كل مفيد هو تعبير عن حاجة ما ، وحاجات الإنسان هي دوماً –فيما يرى- دنيئة ومقزِّزة. ولذلك كانت ثيمة هذه الرواية في تعادل الحب من أجل الحب مع الفن من أجل الفن ، بالمعنى الذي يترامى إلى الكشف عن تحرك الحب والعاطفة لغرض الجمال وأن بعض المشاعر لا تجد أي طريق للتعبير عنها جسدياً. وذلك في المؤدى الذي تصطنع الرواية للدلالة عليه شخصيات ذات فكر حر ونفس ثوري. وهو معنى يفيض فيه في إحدى مقالاته مقرراً استقلال الفن ، ونافياً عنه أن يكون وسيلة ، لأنه غاية في ذاته ، وكل فنان -فيما يرى- يهدف إلى ما سوى الجمال ليس بفنان. وقد ازدادت هذه الصفات تأكيداً واتساعاً لدى الأمريكي إدجار ألن بو (1809-1849) خصوصاً في كتابه (المبدأ الشعري) (1850) وهو مقالة ، كتبها قرب وفاته ، ونشرت بعدها بعام، وتعتمد على سلسلة من محاضراته التي تلخص نظريته الأدبية. وفي هذا الكتاب يقرر ألن بو أن القصيدة ينبغي أن تكتب من أجل القصيدة ، وأن الهدف النهائي للفن هو الجمال. ومن هنا ينظر إلى الشعر بوصفه شكلاً وصورة ، ولا شأن له بالخير والحق ، وإنما بالجمال وحده. وفي هذا الصدد ينعكس لدى ألن بو ما قام في علم الجمال القديم من تقدم المعنى على الشكل في سلسلة الأفعال الشعرية، فالشكل –فيما يرى- هو الأصل والمبدأ وليس المعنى ، أما المعنى فإنه يغدو نتيجة الشكل لا أصله. وقد أكد ألن بو على الفصل الحاسم بين الشعر والشاعر ، أو بين العمل الفني والعاطفة الذاتية والإلهام ، وذلك في اتجاه النقض للمقولة الأساسية في نظرية التعبير. وقد نتساءل عن هذا الجمال الذي يغدو غاية للشعر وسائر الفن ، ويحل محل الفحوى التي يغدو الفن فيها غاية للفن وعلة له في تلك العبارة التي تشبه الشعار ، وبالقدر نفسه محل بدائلها أو عبارات شرحها كما في (الشعر الصافي) و(الجمال الصافي). ومؤكداً أن من الصعوبة بمكان الدلالة على صفة جاهزة يمكن تعليمها وتقعيدها للجمال ، لأنه عندئذ سيكون ناجزاً وكاملاً ، وهذا يعني الإيذان بزواله والنهاية له. ومن هنا كان بهذه الصفة مدار نظرية الخلق ومبدأها الشكلي أو التكنيكي ، أعني البحث عن فرادة واختلاف وابتكار. هذه الصفة للفن هي ما أفضى ببودلير (1821-1867) إلى أن يرى أول صفة للجمال في الفن في إثارته للدهشة ، وهي صفة تقترن باتصافه بالغرابة وتقديمه ما هو مفاجئ وغير متوقع. إنه يقول : (الجمال دائماً غريب) وما دام غريباً وغير متوقع فكيف يمكن أن تحتويه قاعدة أو تتعلمه مدرسة ثم لا تزول الغرابة وتبطل الدهشة! ويلزم عن ذلك نسبية الجمال لا إطلاقه فليس هناك جمال مطلق أو واحد ، بل جمالات دائمة التجدد والحدوث والتكثر والتنوع. إن الجمال يرتبط بالبيئة التي تنتجه ، بقدر ما يرتبط بالفرد ، ونتيجة ذلك أن النقد -من بعد الجمال- لابد له من أن يكون نسبياً. ويتكرر لدى بودلير ما رأيناه عند ألن بو من الفصل بين الشعر والنزعة العاطفية الذاتية ، وذلك في اتجاه التجرد من الذاتية الذي أصبح سمة للشعر الحديث مثلما غدا مقولة أساسية تتكرر وتزداد عمقاً واتصالاً في الأطروحات النظرية الأدبية الحديثة. وإذا كان مؤدى هذا التجرد ينقض نظرية التعبير التي تقوم على الذاتية ، فإن بودلير ينقض -كما صنع ألن بو- مقولة الإلهام وذلك بتأكيده اللحظات الإرادية الذهنية في فعل الخلق الأدبي. وعلى الرغم من أن بودلير يكرر مقولة الفن للفن بقوله : (لا غاية للشعر إلا الشعر ذاته ، ولا يستطيع أن تكون له غاية أخرى) فإنه يطورها بانتقاد ما يصفه بالصفة الطفولية عند أصحابها ، وعقم دورانهم على الفردية المحضة ، بما ينفي العواطف الإنسانية. وليست مقولة (الوحدة الكاملة) عنده إلا امتياز الفن القوي في خلق سحر إيحائي يحتوي الغرض والموضوع ، والعالم الخارجي والشاعر نفسه ، مع التأكيد على الفَرْض لشخصية الفنان التي يجد الفن في فرديتها وداخليتها منبعه وقانونه ، فتغدو هذه الوحدة -في مؤدى تفسير بودلير لجمال الفن- شرطاً لحدوث أثر غير ضار للفن. ولذلك قال (اتحدى أن يريني امرؤ عملاً واحداً من نتاج الخيال تجتمع له كل شروط الجمال هذه ، ثم يكون عملاً ضاراً). إن الجمال –إذن- بوصفه الوظيفة التي يبدأ بها الفن وينتهي إليها هو –من منظور بودلير- في حد ذاته قوة ترفع الإنسان فوق ذاته وتؤكِّدها ، ويتم به الكشف عن واقعية الأشياء وليس إضافته زينة إليها. هذا الجمال هو ما استولى على الفكرة النظرية للشعر عند شعراء المذهب الرمزي ، فكان لدى رامبو (1854-1891) ومالاراميه (1842-1898) وبول فارلين (1844-1896) -مثلاً- في التأكيد المتصل على قطع الصلة بين الشعر وبين الواقع بأشيائه وموضوعاته وأفكاره. وغدا الإيحاء لا التصريح هو الهدف من الأدب ، وليس للشعر –فيما رأوا- هدف سواه، وهو هدف يذهب في اتجاه القطيعة مع الأفكار الواضحة، بقدر القطيعة مع الواقع ، ومقولتهم الشائعة في هذا المعنى : (لا تصف شيئاً ولا تسم شيئاً). فمعنى القصيدة هو ما يكتنهه القارئ حتى لو لم يخطر هذا المعنى على بال الشاعر ، وفي هذا الصدد يقول بول فارلين : (إن معنى قصيدتي هو ذلك الذي يعطيه لها القارئ). إنه نظرٌ إلى الشعر يترامى به إلى قول ما لا يقال وإلى الوصول إلى المجهول ، ولذلك فإن على الشاعر-من هذه الوجهة- أن يفجِّر العالم بالمخيلة الطاغية والمستبدة ، وأن ينفصل عن ذاته التجريبية أو الواقعية فلا يكون شعره تعبيراً عن ذاته أو تسجيلاً لتجاربه ، وأن يخلط بين الحواس ، ويوحِّد بين الأشياء التي ليس من طبيعتها أن تتحد في الواقع بحيث ينشأ من ذلك تكوين غير واقعي ، ويستخدم الكلمات استخداماً جديداً ، ويخلق صوره ورموزه واستعاراته بشكل ذاتي. وقد أُثِر عن بعضهم مثل رامبو دعوته إلى إحراق المكتبة الأهلية في باريس ، وسخريته بمتحف اللوفر وغير ذلك مما يندرج في دلالة ضيقهم بالتقليدي والقديم. وعلى أيديهم ويد بودلير تعزَّز موقع قصيدة النثر ، أي الشعر الذي لا يتقيد فيه الشاعر بوزن بل يخلق في كل قصيدة إيقاعاً خاصاً. هكذا تصب هذه الخصائص المذهبية الرمزية في نظرية الخلق من حيث إحالتها المفهوم الأدبي إلى بحث مستمر عن لغة جديدة غير مكرَّرة ولا مقلَّدة. ولم تكن مقالة برادلي (الشعر للشعر) التي طبعت ضمن كتابه (محاضرات أكسفورد في الشعر) عام (1901) إلا امتداداً للتأكيد على الجوهر الشكلي. فهو يطالب بأن نفكر في القصيدة كما توجد فعلياً وبدون بحث عن قصد مؤلفها ، ومن ثم تختلف تجربتها الخيالية مع كل قارئ وفي كل وقت للقراءة. إنها تمتلك قيمة جوهرية ، وقيمتها هذه هي ما يجعلها غاية في ذاتها. وقد يمتلك الشعر –فيما رأى برادلي- قيمة بديلة مثل إيصال المعلومات وترقيق العواطف والشهرة للشاعر والحصول على المال... الخ، لكن هذه الفوائد لا يمكنها أن تحدِّد فائدته الشعرية بوصفه إرضاء للتجربة الخيالية. أما مسألة الأخلاق والخير فقد رأى برادلي أن علينا ألا نضع الشعر وخير الإنسان في تضاد ، لأن الشعر نوع من خير الإنسان ، وينبغي ألا نحدد القيمة الجوهرية لهذا النوع من الخير بواسطة مرجعية مباشرة لآخر. والأمر نفسه هو ما يبدو لدى برادلي في رؤيته لقيمة الشكل شعرياً ، إنه يميز بين الموضوع في الحياة الواقعية وبين الموضوع في الفن، ويقوده ذلك إلى التمييز بين موضوع القصيدة وجوهرها ، فالموضوع يمكن أن يحدَّد بمعزل عن القصيدة ، وفي هذه الحالة هو خارجها ، وعندما يتَّحد بالشكل فإنه يصنع ما يسميه (الجوهر) وإذا كان من الممكن أن نعرف الموضوع من دون قراءة القصيدة نفسها ، فإنه لا يمكن أن نعرف الجوهر إلا بقراءة القصيدة. ونتيجة ذلك تعني أن الموضوع لا يصنع قيمة القصيدة. وقد نتساءل عن هذا التركيز على الشعر من بين الأنواع الأدبية ، فغالب ما رأينا من تنظير بشأن نظرية الخلق والشكلية –إن لم يكن كله- منذ ابتدأنا بعرض دعوة الفن للفن عند هوجو ومروراً بجوتييه وإدجار ألن بو وبودلير والرمزيين وبرادلي ، كان الشعر وجهته. وقد نتذكر هنا تفريق جان بول سارتر (1905-1980) بين الشعر وبين غيره من الفنون من حيث الانصياع لفكرة الالتزام الوجودي التي قال بها سارتر. فهو يعفي الشعر من هذا الالتزام ، في كتابه (ما الأدب؟) (وهو مقالات نشرت مجموعة عام 1948 ، وترجمه إلى العربية محمد غنيمي هلال عام 1961) لأن الشاعر يدخل إلى عالم الإبداع الشعري عريان من المعنى ، فالكلمات في القصيدة –فيما يقول- تتجمع عن طريق تداعيات سحرية وليس بدافع من معنى بريد الشاعر الإفضاء به. والتعبير عن معنى محدد لن يكون تعبيراً شعرياً لأن عالم الشعر يخلق موضوعه ولا يتم جره إلى موضوع محدد في خارجه. بل إن الشاعر نفسه يكف عن تعرف أهوائه إذا ما صبَّها في قصيدة ولا تعود تدل القصيدة عليها حتى في نظره. لكن تجليات نظرية الخلق والشكلية برزت في الفن التشكيلي والنحت بأوضح مما تجلت به في الشعر ، خصوصاً في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. فقد أخذت تترى لوحات لا تشبه شيئاً ، ولم يعد من مهمة الرسام أو النحات في الانطباعية والتكعيبية أن يحاكي الواقع بل يخلق كائنات بعيدة كل البعد عن أية مشابهة مع الحياة. وقد وجدت هذه الثورة في عالم الفن التشكيلي سندها في نظرية الخلق والشكلية التي تبرِّر لها الاختلاف عن المحاكاة والواقعية وتعمِّق فيها مدلول الخلق والابتكار بقدر ما تؤصِّلها في الشكلية بوصفها غايتها الجمالية. وبالقدر نفسه وجدت النظرية في تلك الثورة ما يسند مقولاتها النظرية ويصادق على مدلولات التحول والتنوع والتكثر الإبداعي ورغبة التفجير للفعل الإنساني والإرادة الخلاقة التي تنطوي عليها.