لم يتبن كاتب كاتباً معاصراً له في تاريخ الأدب، تقريباً، بقدر ما تبنى الكاتب والشاعر الفرنسي شارل بودلير، زميله الأميركي إدغار آلن بو. فهو لم يكتف بترجمة بعض أعماله. ولم يكتف بنشرها في طول أوروبا وعرضها انطلاقاً من باريس، بل كتب عنها مراراً وتكراراً ودعا الى مذهب مبدعها وعمل على انتشار هذا المذهب، الى درجة صار من الصعب أن يذكر اسم آلن بو في أوروبا إلا مقروناً باسم بودلير. وعلى رغم تعدد كتابات هذا الأخير عن زميله، في الصحف والمجلات وحديثه عنه في الندوات والمحاضرات، يبقى النص الأهم والأشمل الذي كتبه صاحب «أزهار الشر» عن صاحب «سقوط آل آشر» و «جريمة مزدوجة في شارع مورغ»، النص المعنون «ملاحظات حول إدغار بو»، وهو العنوان الذي أعطاه بودلير لكتاب أصدره وجمع فيه المقدمتين اللتين كان وضعهما لكتابين ترجمهما من أعمال آلن بو وهما «حكايات استثنائية» و «حكايات استثنائية جديدة»، اللذان ترجمهما وأصدرهما تباعاً عامي 1856 و1857. مزوداً كلاً منهما بمقدمة طويلة خاصة به، حملت الأولى عنوان «إدغار بو، حياته وأعماله» فيما حملت الثانية عنوان «ملاحظات جديدة حول بو». هاتان المقدمتان الطويلتان، إذاً، هما اللتان جمعهما بودلير في كتاب لاحق، ليشكلا معاً أكثر من مجرد تقديم لعمل من الأعمال. لقد تكاملت المقدمتان لتصبحا دراسة شاملة وموسعة ليس فقط عن أدب إدغار آلن بو، بل عن حياته أيضاً. إذ نعرف الآن أن القسم الأول من النص (أي المقدمة الأولى) إنما يتألف من معلومات عدة ومسهبة تتحدث عن حياة الكاتب الأميركي وعلاقته بأدبه. أما القسم الثاني، وهو الأهم والأطول طبعاً فإنه مكرس، ليس فقط لتحليل وانتقاد أعمال آلن بو، بل كذلك لتشريح وتحليل المذهب الذي ينطلق منه الكاتب الأميركي، في ارتباط هذا المذهب بالمجتمع الذي يعبر عنه الكاتب وتأسيسه لإنجاحات أساسية ومعينة في الأدب الأميركي نفسه، وبالنسبة الى بودلير، لم يكن هذا الأدب الأميركي امتداداً للأدب الأوروبي، أو استنساخاً له، أدب آلن بو، وتحليله لهذا الأدب، فإن الإنصاف والحقيقتين التاريخيتين تقتضي منا أن نقول انه في صفحات كثيرة من هذا الكتاب يبدو واضحاً أنه يتجاوز الكاتب الأميركي، ومن بعيد، ويحمله أكثر كثيراً مما يمكن لطاقته الأدبية أن تحمل. في معنى من المعاني، من الواضح هنا أن بودلير - حتى ومن دون ان يبدو عليه أنه أراد ذلك حقاً - إنما استخدم آلن بو وأدب هذا الأخير، لوضع نظريات نقدية أدبية جديدة، بحيث أننا اليوم، إذا ما قرأنا أدب آلن بو وحاولنا العثور عليه على تطبيق حقيقي لنظريات بودلير الأدبية/ النقدية، سنعجز عن ذلك. ومع هذا، حين عزا بودلير نظرياته الى آلن بو، كان صادقاً تماماً في ذلك. كان - بالأحرى، يرى في أدب الأميركي ما يعجز الآخرون عن رؤيته فيه. وفي هذا المعنى قد يمكن أن نقول إن بودلير إنما ساهم هنا - ومن دون أن يدري تماماً - في تكوين نظرية التلقي، التي ستكون لاحقاً من «ابتكارات» القرن العشرين الكبرى في عالم العلاقة بين النص والقارئ... بيد أن زمن بودلير كان أبكر من أن يتيح التأكيد على هذا. ومن هنا نكتفي بمواصلة الحديث عن كتابه عن آلن بو، على اعتباره سرداً متقدماً يحلل أدب هذا الأخير وينطلق منه لوضع أسس نظرية في عالم الأدب، أسس كانت جديدة كل الجدة في ذلك الحين. ولنقرأ، مثلاً، بودلير يكتب: «... كذلك إذا كان مبدأ الشعر يتمثل، بصرامة وبساطة في الوقت نفسه، في تطلع الإنسان نحو جماليات سامية، وإذا كان تجلي هذا المبدأ يكمن في تألق الروح... فإن هذا التألق يبقى مستقلاً تماماً عن الشغف الذي هو ثمالة القلب والحقيقة التي هي خميرة العقل. وذلك لأن الشغف أمر طبيعي، بل أكثر طبيعية من أن يعجز عن إدخال رنة جارحة، مرجرجة في حيز الجمال الصافي: وهو أكثر ألفة وعنفاً من أن يعجز عن فضح الرغبات كما كان البعض يرى، بل كان أدباً جديداً لا بد من أن يلقي بظله، على الأدب الأوروبي من الآن وصاعداً، بحسب تعبير بودلير الخاص. ومن هنا فإن العروض والتحليلات النقدية التي امتلأ بها هذا النص «يجب أن ينظر إليها على اعتبار أن أهميتها كبيرة وشاملة تعني أوروبا بأسرها، والثقافة الأوروبية في القرن التاسع عشر، بحسب تعبير بودلير أيضاً. وهنا، قبل أن نواصل الحديث عن الكتاب، قد يكون مفيداً أن نتوقف لحظة لنلفت الانتباه الى أن بودلير، في هذا التأكيد الأخير، كان واحداً من أوائل الذين تحدثوا، في هذا الصدد، عن الثقافة الأوروبية في ذلك القرن وعن ضرورة أن تنهل هذه الثقافة من الثقافة الأميركية ومن رائدها إدغار آلن بو، إذ حتى ذلك الحين كان الحديث يجرى عن ثقافة كل بلد أوروبي بمفرده. كما كان يجرى على أن تنهل الثقافة الأميركية من الثقافة الأوروبية لا العكس. ما يعني أن بودلير كان رائداً في ذلك التأكيد الذي لن يظهر بصورته الشاملة، إلا بعد ذلك بعقود طويلة. المهم هنا، إذاً، هو أن شارل بودلير، ينطلق من كتابات زميله الأميركي، ليخوض مسائل شديدة الجدة. ومع هذا من الواضح أن الحديث عن مجد آلن بو الأدبي، كان أيضاً يهمه في المقام الأول، هو الذي كان يرى أن في هذا المجد فائدة للأدب بقدر ما فيه من فائدة للأديب الأميركي. وفي الوقت نفسه من الواضح هنا أن بودلير يعرض في هذا النص المزدوج، أيضاً، لكل ما ستكون عليه مصادر وحيه في منظومته النقدية، حيث نعرف أن بودلير، بقدر ما كان شاعراً متمرداً وكاتباً فريداً من نوعه (ستنظر إليه الأجيال التالية، لا سيما في أوروبا على أن مكانته الأدبية تفوق الى حد ما، مكانة آلن بو نفسه، لكن هذه حكاية أخرى لا علاقة لها - طبعاً - بالكتاب الذي نتحدث عنه هنا) كان ناقداً أيضاً، بل - كما الحال في كتابه هذا عن إدغار آلن بو -، مؤسساً لنظريات نقدية كانت في ذلك الحين جديدة كل الجدة، على الثقافة الفرنسية/ الأوروبية. وهو لئن كان عزا معظم هذه النظريات الى قراءته الخالصة وضروب الكآبة واليأس النبيل التي تسكن المناطق المافوق طبيعية للشعر». في مثل هذه الصفحات - يقول دارسو بودلير الذين ننقل عنهم هذه التأكيدات -، إضافة الى التوضيحات التي يوردها بودلير حول مثال شعري أعلى، استقبلها الرمزيون البارناسيون لاحقاً بكل حماسة وترحاب، يترك الناقد نفسه «تحت تأثير مباشر من إدغار آلن بو، مسترسلاً في إدخال بعض العناصر التعبيرية الصوتية، التي سيطورها المذهب الرمزي لاحقاً، لتصبح في أشكالها المتطورة جزءاً أساسياً من النزعة السوريالية. ولسوف يعترف السورياليون لاحقاً لبودلير بأنه كان وراء إثراء حركتهم وشعرها بوسيلة تحليل ودراسة سحرية الى حد ما، تطاول المعرفة نفسها (بحسب ما سيقول بول فاليري تحديداً)... ولكن في «مطاولة تتجاوز البعد العقلي لتدخل في احتكاك مباشر مع حقيقة اكثر نصية، ذات بعد «ما فوق طبيعي». منذ وقت مبكر في مساره الأدبي، اهتم شارل بودلير (1821 - 1867) بأدب إدغار آلن بو الذي يعتبر، في شكل أو آخر، المؤسس الحقيقي للأدب الأميركي، بعدما كان هذا الأدب مجرد امتداد للآداب الأوروبية، والإنكليزية منها في شكل خاص، ولئن كان بودلير قد عبر عن هذا الاهتمام عبر ترجمته أدب آلن بو، وعبر الكتابة عنه، فإنه عبر عن ذلك أيضاً من خلال أدبه الخاص، أدبه الكبير الذي إذا كان قد تأثر بأدب سلفه الأميركي فإنه عرف كيف يتجاوزه أيضاً. [email protected]