تتكون منظومة المرور عادة من خمسة عناصر: السائق، الطريق (بإشاراته وعلاماته)، السيارة، جهاز المرور، وأخيرا نظام المرور نفسه. أي خلل في واحد من هذه العناصر يتسبب في اختلال المنظومة كلها، فما بالك لو اختل عنصران أو ثلاثة أو أكثر.. من يخرح هذه الأيام إلى شوارع جدة سيرى العجب، مجرد الخروج من منزلك بسيارتك في أي وقت من الأوقات في جدة هو بحق مغامرة تؤدي إلى ارتفاع السكر وضغط الدم، أو انهيار عصبي، فلا عجب إذا أن نسبة كبيرة من سكان جدة مصابون بهذه الأمراض، أو بتوتر الأعصاب وضيق الخلق.. توقع حدوث أي شيء أثناء قيادتك لسيارتك في جدة، فالسائقون هنا يأتونك من كل صوب بسرعة مخيفة، مثل أسراب الجراد، مع اتجاه السير وعكسه، من اليمين واليسار ومن الخلف والأمام. لا تصدق إشارة المرور، فالضوء الأحمر لا يعني أن السيارات سوف تتوقف، والأخضر لا يعني أبدا أن الطريق أصبح آمنا. لا تصدق سوى عينيك. أحد أسباب ذلك، إلى جانب الرعونة الفائقة لدى معظم السائقين، وجهلهم بآداب القيادة وعدم الاعتراف بأنظمة المرور، هو أن شوارع جدة الرئيسية والجانبية أصبحت تنتمي إلى أربع فئات؛ إما شوارع مسدودة (مقفولة)، أو مكسرة، أو محفرة، أو يجري رصفها وسفلتتها. تشعر عندما تخرج بسيارتك وكأنك محاصر بسبب الشوارع المسدودة والتحويلات وأعمال السفلتة والرصف، وعليك أن تتبع (خارطة طريق) معقدة لكي تخرج من متاهة هذه الطرقات. حتى الشوارع الضيقة داخل الأحياء السكنية في جدة تحولت إلى حلبة صراع بين سيارات جامحة يقودها سائقوها بلامبالاة، وأصبحت لذلك مناطق غير مأمونة.. يبدو أن القاعدة السائدة لدى السائقين في جدة هي أن أنظمة المرور وآدابها وضعت لكي يتم كسرها، لا لكي تحترم، وأن الشاطر هو من يترفع على هذه الأنظمة، فهذا نوع من الشجاعة والإقدام ودليل على الفتوة والرجولة. باختصار، تصرفات السائقين في جدة لا يمكن لعاقل أن يصدقها، بعضها مضحك وأكثرها يبكي.. الغريب أن سائقي السيارات لا يتعظون بالإحصائيات المخيفة لقتلى حوادث المرور لدينا، التي لا مثيل لها في العالم. هنا، السيارة هي أداة لإثبات الرجولة وللترويع والتخويف، وليست أداة تنقل من نقطة إلى أخرى للعمل أو للتنزه، لا أكثر ولا أقل.. أشار تقرير لمنظمة عالمية إلى أن طرقات مدن المملكة هي الأسوأ في العالم من حيث سلامة المرور، واحترام أنظمة المرور المعترف بها عالميا. والواقع أن لدينا أيضا أسوأ سائقي سيارت في العالم. خليط من الوافدين من دول العالم الثالث الذين حصلوا على رخصة قيادتهم لأول مرة هنا في المملكة، وأكثرهم بلا فحص دقيق لقدراتهم على قيادة السيارات، ولا يقرأون اللغة العربية أو الإنجليزية أو أية لغة أخرى، ولا يفقهون شيئا عن علامات المرور الدولية، مع شباب يتسابقون إلى تحطيم كل مبادئ سلامة المرور وسلامة الآخرين.. في ضوء كل هذه الغرائب، يقف رجال شرطة المرور عاجزين تماما عن تنظيم حركة المرور، إما لقلة عددهم، أو لضعف إمكانياتهم، أو لأنهم سلموا أمرهم «وأمرنا» لله... يندر أن نرى ضابط أو شرطي مرور يقف وسط ميدان مزدحم أو تقاطع رئيسي لينظم حركة المرور ويقودها إلى بر الأمان، كما نرى في لندن وباريس ودبي والقاهرة وغيرها، بل كثيرا ما نرى المخالفات الخطرة تحدث أمام ناظري رجل المرور، وهو يقف كالمتفرج، بينما نكون نحن فى أشد الحاجة لتدخله، ربما نجد العذر لهذا الجهاز المهم، الموجود نظريا والغائب عمليا.. ولحسن الحظ أدخلنا نظام ساهر لضبط السرعة في طرقاتنا، فساعد هذا على الحد من حوادث السرعة، لكني أتمنى أن يتطور هذا النظام أيضا لضبط قاطعي إشارات المرور، وهي جريمة تصل إلى حد القتل مع سبق الإصرار، مع وضع أقصى العقوبات على مرتكبيها تصل إلى التوقيف وسحب الرخصة لعام وأكثر، فلا يجب الانتظار حتى تقع الكارثة... وأتساءل، ألا يمكن استخدام جزء من المبالغ الطائلة التي يحصدها نظام ساهر لرفع مستوى تدريب وكفاءة رجال المرور، ولتحفيزهم بمنحهم بدلات الخطر في عملهم، ولتشجيعهم على بذل المزيد من اليقظة والجهد لضبط المرور واستعادة الإحساس بالأمان والسلامة في شوارعنا التي تحولت مؤخرا إلى مضمار صراع مخيف، الأولية فيه للأكثر تهورا.