في رأيي الشخصي نعم، فأخيرا نشرت معلومات مفادها أن هيئة حكومية بريطانية تجري تحقيقا عن عمليات مصرفية تخص وحدة إتش إس بي سي في جزيرة جيرزي. ووفقا للمعلومات، تحتوي وحدة إتش إس بي سي في هذه الجزيرة على نحو أربعة آلاف حساب من بينها حساب لمهرب مخدرات مشهور يقيم في فنزويلا وسبق أن عثر على 300 قطعة سلاح في منزله في ديفون يدعى ميشيل لي، وحسابات لثلاثة مصرفيين يواجهون تهما خطيرة تتعلق بقضايا تزوير واحتيال وحساب لشخص لقب فيما مضى باللص رقم 2 في بريطانيا، يدعى ميشا إلياس. كما تعود بعض الحسابات إلى أشخاص مطلوبين في قضايا جنائية للشرطة البريطانية. وكنت قد كتبت مقالا ذكرت فيه أنه طالما كان الأمر يخدم مصالح السياسيين العليا فلا ضير من استخدام هذه المصارف كأدوات لتحقيق الغايات والأجندة، ومتى افتضح الأمر، فأقصى ما قد يلحق بالمصرفيين الذين ارتكبوا هذه المخالفات والجرائم إجبارهم على التقاعد. أما من يقف ويدعم مرتكبي هذه المخالفات والجرائم المالية فلا أحد يعلم عنهم ولا خيوط تؤدي إليهم. ورغم نفي المصرف تلقيه أي خطاب أو حدوث أي اتصال يفيد بإجراء تحقيق مع أية جهة أو سلطة رسمية بريطانية، أكدت هيئة الضرائب والجمارك البريطانية أنها تسلمت معلومات من المصرف وأنها تقوم بمراجعتها. وسرعان ما خرج المحرر الاقتصادي في ال"بي بي سي" روبرت بستون، بتصريح (تسطيحي) غير مستغرب من ال"بي بي سي" حين يأتي الأمر للفضائح البريطانية، نصه: "إنه من الصعب، اعتمادا على ما هو متوافر من معلومات، القول إن سيطرة "إتش إس بي سي" على الأموال ضعيفة، رغم أن الأمريكيين يؤكدون، منذ زمن بعيد، أن البنك عرضة لاستغلال الإرهابيين والمجرمين له في غسيل الأموال". وإذا كان هذا الاقتصادي (الفلتة) لا يعترف بتأكيدات الأمريكيين، فهل قرأ وسمع اعترافات واعتذار المسؤولين التنفيذيين في إتش إس بي سي للقضاة والمحققين الأمريكيين، وكان على رأسهم مسؤول الالتزام في البنك الذي أكد أنه لم يكن على دراية كاملة بوضع فروع البنك في العالم لخلل في هيكل إدارة الالتزام، وأن هذا الخلل لم يسمح له بأن يكون على اطلاع بما يجري في فروع البنك في العالم. وهل يذكر هذا المحرر أن موقع محطته (المحترمة) نشرت مقتطفات من رسالة مسربة لرئيس مصرف إتش إس بي سي، ستيورات جاليفر، لموظفيه ذكر فيها أنه "علينا أن نكون مسؤولين وأن نتحمل مسؤولية تصحيح الخطأ الذي وقع"، أم أن مسؤول ال"بي بي سي" يعد كل هذا غير كاف للقول بضعف سيطرة المصرف على عملياته وأمواله. إلا إذا كان السيد المحترم روبرت بستون يريد القول إن كل ما تم كان عن قصد ودراية وتخطيط وتآمر من التنفيذيين في البنك وبتغطية وتوجيه من جهات عليا في بريطانيا، وبناء على ذلك لا يمكننا أن نحسبه ضعفا بل على العكس، يجب أن ينظر إلى الأمر على أنه قوة إرادة وإدارة وسيطرة وتخطيط، فحينها فقط يمكن القبول بتصريح السيد المحترم روبرت بستون. وجزيرة جيرزي التي يوجد بها فرع إتش إس بي سي الذي تدور حوله التحقيقات الحالية، يبلغ عدد سكانها نحو 90 ألف نسمة، وتبعد عن سواحل بريطانيا 168 كم، وقوانينها المالية والمصرفية لا تختلف كثيرا عن قوانين جزر الكايمن، فكلاهما من مراكز مصارف ال(أوف شور) التي تتسم بالسهولة الفائقة في التشريعات المصرفية وإجراءات فتح الحسابات التي لا تتطلب تفاصيل (مربكة) عن مصادر أموال المودعين. يقول جوزيف ستاغلتز (كبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي والفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001)، "إذا كانت البيئة التشريعية ذات أهمية للنظام المصرفي، فلماذا يسمح لأنظمة مصرفية غير مشرعة بالاستمرار؟ الجواب هو لأن ذلك يخدم مصالح بعض الأثرياء. إن تواجد نظام مصرفي غير مشرع ليس وليد مصادفة أبدا، ولولا تعاملات مصارف الدول السبع الكبرى مع هذه الفروع التي لا تطبق المعايير المصرفية المتبعة في الدول السبع، لما بقي مصرف واحد من مصارف ال"أوف شور". إن تعامل الحكومة البريطانية مع مصرف (إتش إس بي سي) في هذه القضية الأخلاقية والجنائية على أساس تهرب ضريبي، جزء لا يتجزأ من المشكلة. فالسماح للمصارف بفتح حسابات لمجرمين مطلوبين أمنيا ولمهربي سلاح ولصوص وغيرهم مسألة خطيرة ينبغي التعامل معها على أساس تهديد الأمن الدولي. وهذه ليست حادثة عرضية بل ممارسة اعتادت عليها هذه المصارف البريطانية. مصرف إتش إس بي سي وستاندرد تشارترد ورويل بنك أوف سكوتلاند وبنك باركليز، كلها متورطة في قضايا أخلاقية وجنائية خطيرة، تشمل إخفاء تعاملات مع تجار مخدرات وتغطية على أموال دول إرهابية والتواطؤ والتزوير للتلاعب بأسعار الفائدة وإعطاء دورات ودروس لكيانات إرهابية في كيفية اختراق الأنظمة المالية في العالم دون أن يتم اكتشافهم. كل ذلك وما خفي أعظم، ولكن يبدو أن لبعض الساسة البريطانيين أجندتهم الخاصة التي لا تقيم للأخلاق والقيم الإنسانية أي اعتبار.