ودعت منطقة الباحة الأسبوع الماضي رمزا آخر من رموز ثقافتها المحلية ، ودعت (أبو رزق) ذلك العلم الذي غنّى الحياة شاعرا , وأغنى الذاكرة حكيما ، خلال نصف قرن ونيف لا أظن أحدا شاعت أخباره وقصائده وحكمه وأمثاله وطرائفه في منطقة الباحة أكثر منه رحمه الله ، ولهذا الحضور الاستثنائي أسبابه ، فهذه الشخصية الفذة حقا مثلت نموذجا حيا لتلك العبقرية التي توقف المرء على الحد بين صرامة التعقل وخفة الجنون , ومن هنا فتنتها وغربتها . وهو شاعر مقل , لكنه من ذلك النمط الذي يراود اللغة ويمكر بها حتى لكأنه يريدها أن تكون حليفته وحده ، شاهدته غير مرة في عرضات تتطلب الكثير من العفوية وسرعة البديهة , لأن المقام يقتضي الارتجال , لكنه لم يكن ينطق بغير كلام عميق رصين يبقى للما بعد ، ولا عبرة عنده بأن ينتظر الناس فترة أطول من المعتاد , أو أن تتبدد جماليات القصيدة في طيات صوت أجش خشن متقطع يزيده القول الثقيل ثقلا. حضرت له مجالس قليلة , وبالصدفة , فإذا به شخص صموت ، كثيرا ما يبدو سارحا في واد آخر يطارد مقولة حكمية جديدة أو صورة شعرية لم يسبق إليها من قبل ، وإذا ما نطق فالمؤكد أن كل من في المجلس سينصتون له لفرط ثقتهم في اختلاف تعبيراته عن كل ما يتوقعون , ولشدة حرصهم على أن ينقلوا شيئا من كلام (أبو رزق) في أقرب سانحة. تورط في الحب وشقي به فترجم خيباته إلى أخبار وحكايات وقصائد شرقت وغربت لتصبح زاد المقيم والعابر ، عانى الفقر ومشقاته فحول معاناته إلى معين لا ينضب لإبداع يتأمل الحياة ويحذر من مكرها ويتغني بالمروءات فيما وراء المديح الشخصي لمن يصنع الجميل في نبيل قوم مثله ، تدخل في الصلح بين عشائر وقبائل اختصمت على أمر ما ، فكان نسخة مطورة من سلفه الشاعر الكبير محمد بن ثامرة , أسطورة عصره , الذي كانت قصائده تطفيء أكبر فتنة وتحول الأزمة إلى مناسبة فرح ونشوة. لا أعرف الكثير عن حياته وتعليمه لكن المؤكد أنه من ذلك النوع الذي يرى العالم بعيني صقر فيرصده ويتمثل أحسن ما فيه وهو يحلق في علو شاهق ، فثقافته مزيج عجيب من تقاليد اجتماعية شائعة , وأساطير شعبية ممتدة في مجهولات الوقت , ومقولات دينية رسمية لا تخلو من بعد صوفي مشع ، ولا تغيب الثقافة الحديثة عن نصوصه وإن ظلت تحضر عبر الدهشة من التقنيات الجديدة التي غيرت نمط الحياة وداعبت المخيال العام دون أن تهيمن على مخيلة شاعر أصيل مثله ، وليست العبرة بما يطل على سطوح التعبيرات من علامات هذا الرافد أو ذاك , لأن الذهنية العبقرية تخفي أكثر مما تظهر , وهكذا تتخفى أسرارها حتى عن صاحبها والناطق باسمها. والحقيقة أن الطاقة الإبداعية الخلاقة جينات في شق من الأسرة ، فأمه رحمها الله كانت شخصية ثقافية - إبداعية من النمط ذاته وإن لم تحفظ لها الذاكرة الجماعية الذكورية الشيء الكثير , كالعادة ، ولقد استوحيت شيئا منها في نص لي بعنوان (أم علي الأخرى) أهديته لأستاذنا منصور الحازمي , ونشر في كتاب تكريمي قبيل سنوات . وهاهو ابنه يصرف الطاقة الاستثنائية ذاتها إلى العلوم الحديثة فيسجل الاختراع بعد الآخر , وهو في أولى سنوات الدراسة الجامعية. رحمك الله يا أبا رزق , وألهم ذويك الصبر والسلوان. أما نحن فخير عزاؤنا أن نقول : مات الشاعر , أما الشعر فسيبقى فرع من تلك الشجرة التي ستظل تسهر قرب الإنسان.