أحد الأصدقاء الجنوبيين ، عاد إلى قريته في إحدى الإجازات الصيفية ، وفي إحدى زياراته لواحد من شيوخ القرية ، سأله عن فلان وفلان ، وحين استفسر عن أحدهم ، قال له الشيخ غاضبًا : (لا تجيب لي سيرته!). سأله صديقنا باستغراب عن السبب ، فأجابه الرجل المسن بكل حسرة : (ما فيه خير... علماني!!). اندهش صاحبنا ، عندما علم أن العلمانية وصلت إلى قريته النائية ، بل وإلى شيخ من شيوخها الذين لا يجيدون القراءة أو الكتابة ، لكن دهشته تحوّلت إلى ضحكة مجلجلة ، بعد أن عرف ماذا يعني الشيخ بكلمة علماني ... العلماني في عرفه هو الذي (يعلِّم بكل شيء) بحسب اللهجة الجنوبية ، أو ذلك الرجل النمّام الذي لا يمسك خبرًا في فمه ، بحسب اللغة الفصيحة. مجتمعنا هو مثال حي لذلك الشيخ : مجتمع مسنٌّ يجلس على أطراف العالم ... يتسقط الأخبار والقصص والمصطلحات التي لا يعجز أبدًا عن استهلاكها وهضمها وتفسيرها وإعادة (ترويجها) ، ولكن على طريقته هو ... يردها إلى ما يعرفه من كلمات ، أو من وشايات ، أو خطب أو فتاوى ... قد يسهّل الله تعالى على بعض أفراده ، ويمدهم بنعمة التنقيب فيرتقون درجة أعلى من درجات (البحث) ، ولكنه يظل بحثًا اختزاليًا على طريقة (جوجل) ، يختصر المعاني العميقة في مقال ، أو وجهة نظر عابرة لكاتب عابر. العلمانية والليبرالية والحداثة والديمقراطية وما شئت من مفاهيم ومصطلحات ... كلها عناوين لا تحتاج إلى الكثير من الجهد في استيرادها ، وإعادة تسويقها ، ولكن بطريقة مغشوشة وفيها الكثير من التشويه والتجني (بقصد وبدون قصد) ... يستوي في ذلك رجل الشارع ، وحتى الكثير من (المثقفين) الذين يعيدون إنتاج المعرفة على طريقة الشيخ الظريف في قريته النائية ، ولو ببعض الحذلقة اللغوية ، والاستعراض الكلامي. مجتمعنا -بحمد الله- يملك أيضًا خاصية مهمّة من خصائص الأمم (الراسخة) : يثق الفرد فيه بخلاصة ما توصل إليه من قناعات أو وشايات ، ولا يرى أو يسمع أو يقرأ (إذا قرأ) إلاّ كل ما يعزز أفكاره ، ويدل على صحة ظنونه. لا نشك ولا نتساءل ... لدينا اكتفاء معرفي ذاتي ، وكمية من اليقين والثقة في النفس ، ما يجعلنا قادرين على تصدير هذه الثروة الوطنية (غير الناضبة) إلى كل شعوب الدنيا ...