النزاعات الفكرية مدعاة لخنق الدين ومحاصرته وتشويهه ، وما تفرق المسلمون عبر تاريخهم إلا حين فُرضَ التشريع الاجتهادي على المناخ الاجتماعي العام ، إضافةً إلى عوامل سياسية فاعلة واقتصادية وثقافية أجّجتْ الخلاف المذهبي حتى غدا عقدياً كما هو عليه اليوم ، ومن البداهة أن يتحمّل الانقلاب السلطوي على مدنية الدولة مسؤولية التعصب للمذاهب الفقهية أولاً ثم الفكرية لاحقاً لتكون جذوة تأجيج الصراعات وافتعال الأزمات ، وإخراج المجتمع من فضاء البناء الفكري والمنهجي لجسد الدولة الحديثة إلى بؤر التوترات والتشنج والتأزيم ، ولم نستفد من دروس الماضي برغم وضوح عناوينها ، وتجاهلنا قدرة العقل في تعامله مع آي التنزيل بأدوات التأويل ، ليبقى كثير من أتباع الدين الإسلامي اليوم ، المُسلِّمين بجدوى الصراعات والأزمات يجهلون أن التشريع الموثق في كتب تراثهم ومراجع مذاهبهم استنباطي وبشري لا وحيٌ إلهي ، وتكييف دنيوي لا تكليفٌ ديني ، فمصادر التشريع متناهية بألفاظها ، والعقل البشري لا متناه ، وبذا يمكنه في كل عصر استنباط مفردات تؤهله للعيش والتعايش ، دون تزكية لذات ، أو إعلاء لجهة على حساب بقية الجهات ، وما قرار تأسيس مركز لحوار المذاهب إلا نواة خير من رجل خير عرفنا منه وعنه ما يُعزز ثقتنا به وبرؤيته وتطلعاته ، ونؤمل ونتطلع إلى تأصيل منهج حواري وفضاء تشاوري تصالحي وغير متعصب ، ومن سُبل نبذ التعصب إقصاء الخطابات المستعدية والمستفزة ، فحين تنعتني وأنا المسلم بالكفر لأني أخالفك الرأي فأنت تُعزز الحواجز ، وتوثق عرى الانفصال وتسعى إلى مزيد من الفرقة والتشتت تحت مظلة سياسات بائسة تاريخها دموي وتعسفي ولا إنساني ، ومهما تكن دواعي الاختلاف بيننا كمذاهب فقهية إسلامية ، فإن بيننا قواسم مشتركة ذوّبتها قرارتُ سياسية لإضفاء صبغة إسلامية ومقدّسة على عاداتنا وتقاليد آبائنا وأجدادنا ، علماً أن كل الأطياف الإسلامية تقبل التشريع المنسجم مع طبيعتها البشرية ، دون تعسف ولا نعت بالدونية أو وصم بالخروج من دائرة الإسلام ، فكل اجتهاد فقهي له ظروفه ودواعيه ويرتبط بزمانيته ومكانه دون حتمية استصحابه في كل أزمنتنا وأماكننا ، وسيظل لحماقات السياسيين ظلالها على واقع الناس حد الممانعة والرفض لكل ما يخالف انتماءاتنا المذهبية ، فالثقافة التقليدية ثقافة استهلاكية تقدّس الموروث القيمي للمجتمع البدائي ، وعدم قابليتها للانفتاح وإصرارها على الانغلاق أمام كل الفضاءات المفتوحة يُعرضها للتعرية والفضح وكشف السوءة الفكرية والمذهبية الموغلة في تعصبها وتمجيد مقولات مُنظّريها ، وحينها يتعذر عليها أن تستدعي أطرافا أخرى للحوار معها وهي مُغرقة في تزكية الذات والنظر إلى واقعها المأساوي على أنه مثالي ، مع تجاهلها أو جهلها بأننا نتعبد الله بجدل غير المسلمين وبخطاب الشيطان ضمن السياق القرآني المجيد ، تأكيداً على شفافية النص الإلهي وقصديته توثيق الأحداث وإثباتها كما هي ولو كان القرآن متعصباً لحذف كل الآيات المتضمنة معارضة توجيهات الرحمن بدءا من الشيطان وانتهاء ببني الإنسان.