قبل كل شيء إنها لفرصة عظيمة أن يقدر الله لي التواصل مع القراء الأعزاء وأكتب السطور التالية في موضوع حيوي هام بحيث لا أحسبني إدراكه سواء على سبيل التفصيل والإجمال. كما لا أخالني أقف على دلالاته ناهيكم من كوني سأقع في الخطأ من حين لآخر.. فالموضوع الذي تحت ريشة قلمي يتصف بالأهمية فضلاً عن اتصافه بالحساسية، لذا فإن طرق باب هذا الموضوع مرتقى صعب لا يكتب فيه إلا من علا كعبه في علوم الشريعة، وإني على يقين تام أني خال الوفاض من ذلك.. وعلى ثقة تامة أني سأتعرض لمتاعب شتى وصعاب كثيرة في كل لحظة ومع ذلك كله سأكتب فيه وما أعد الكتابة فيه إلا شحذا لهمم غيري. لم ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن بيّن معالم شريعة الله فترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولن يتسنى لنا ذلك إلا إذا تمسكنا بأطناب هديين ووحيين هما (كتاب الله تعالى، والسنة الشريفة الصحيحة) إذ إن الأمة الإسلامية قد تبين لها معالم شرعها والحالة هذه، وجاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام رضوان الله عليهم فنهجوا هديه، ولكن يوم أن اتسعت دولة الإسلام وتفرق الصحابة في الولايات والأمصار ومن ثم جاء من بعدهم التابعون وتباعد الناس في الزمان والمكان عن بعضهم البعض صار هذا يقول قولاً - وذاك يقول قولاً آخر - ولكون هؤلاء لم يكونوا تحت سقف قبة واحدة ولم تتلاقح أفكارهم مع بعضهم البعض ليخرجوا برأي واحد صائب، ومن جراء هذا التباعد زمانا ومكانا ظهرت المدارس الفقهية المختلفة أو بالأحرى تكونت المذاهب الإسلامية المنتشرة هنا وهناك، وثمة سبب آخر لظهور هذه المذاهب واختلافها وربما يكون هذا السبب جوهرياً ألا وهو - البعد عن مصدر التشريع الأول القرآن الكريم وكذلك ضعف ملكة الاستنباط عند هؤلاء بعكس ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم. إن القرآن الكريم نزل باللسان العربي الفصيح وكان هذا اللسان هو وعاء هذا الدين الذي صيغت به نصوصه ولكون الرعيل الأول ولاسيما الصحابة رضوان الله عليهم أساتذة في هذه اللغة فإن مخرجات استنباطاتهم متينة.. ولكون الصحابة الكرام يملكون اللسان العربي بقرنيه فإن نصوص الشريعة التي وردت في القرآن سهلة المنال عندهم، ولكن من أتى بعدهم من عرب وأعاجم ربما أنهم لا يملكون ذلك، ولهذه الحيثية فإن شيئاً من فهم النصوص الشرعية قد يغيب عنهم!! إن أصحاب هذه المذاهب كل انفرد بقول تجه فهم هذه النصوص وأحياناً لم يتأطر الفهم الشرعي عندهم جميعاً، ولكون أقوال هؤلاء دونت وإن كان أحياناً يجانبها الصواب!! وصارت نهجاً ظهرت هذه الاختلافات التي دُونت وتناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل - فكان يوجد في المسألة الفقهية الواحدة عدد من الأقوال والآراء والرؤى!!! فكان لأهل العراق رأي - ولأهل الشام رأي - ولأهل الحجاز رأي - وكذلك رأي لأهل مصر. إنه يوم وردت الأمة الإسلامية على نتاج هذه المذاهب التي أحيانا تبتعد عن المنبع الرئيسي وهو القرآن الكريم انحسر فكرها وصارت تنتج فقهاً يجانبه الصواب أحياناً ولاسيما عند بعض أنصار هذه المذاهب. إنه يوم كان الصحابة رضوان الله عليهم يتماسون مع كتاب الله وسنة رسوله كانت أفكارهم الفقهية نيرة خلاقة لا تخرج عن مراد الله تعالى ومراد رسوله، فكانت أفكارهم تسير متناغمة في نسق صحيح متمشية مع نصوص القرآن الكريم، إن النشاز الفقهي الذي أتى بعد الرعيل الأول والذي هو عبارة عن نشوء المذاهب الإسلامية وُجد فيه هنات وسقطات في هذا المذهب أو ذاك - لكونهم ابتعدوا دون قصد عن المصدر الرئيس للشريعة. إنه مع الأسف الشديد أن الأمة الإسلامية لا أقول في زمان دون زمان ولا مكان دون مكان ارتمت في أحضان هذه الاجتهادات الفقهية التي ربما جانبها الصواب! إن أصحابها غفر الله لهم حذرونا أن نسلك الخطأ إذا تبين الصواب فكان بعض ممن أسس هذه المذاهب يقول «كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر - ويشير إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم» والآخر منهم يقول: الصواب مذهبي - إن في عنق الأمة الإسلامية ولاسيما علمائها الأفاضل طوقا من المسؤولية في تبني صحيح هذه المذاهب والبعد عن ما وقع فيها من أخطاء، وإن اللوم قائم اليوم بسبب كون العلماء حفظهم الله ورعاهم يستطيعون أن يجتمعوا تحت سقف واحد وفي زمان واحد فيعصف بأذهانهم وتتلاقح آراؤهم، كما أنه بالوقت نفسه يجب ألا يتولد عندنا إلا أفكار يحالفها الصواب ونحن نستطيع معاً أن نعلم بكل ما يقوله زيد أو ما يقوله عمرو في التو واللحظة.. فيصحح العلماء ما صح ويباركونه ويبعدون الخطأ ويصوبونه.. إن أخطاء السابقين التي وصلت إلينا نعذرهم في ذلك لأن تلك الاجتهادات التي جانبها الصواب لم يعلم به الكل ومن ثم تُصحح في التو واللحظة لصعوبة نقل المعلومات آنذاك عكس ما نحن عليه اليوم، يوم صار الاجتماع سهل المنال مكاناً وزماناً، فيبارك القول الصحيح ويُقضى على القول الجانبه الصواب في المهد.. إن فكرة المذاهب الإسلامية هي فكرة طارئة على الفقه الإسلامي بسبب تلك الحيثيات التي ذكرتها آنفاً، إنه يجب علينا اليوم ردم تلك الهوة التي توجد بين هذه المذاهب المختلفة حتى يتسنى لنا السير تحت مظلة فقهية واحدة ما أمكننا إلى ذلك سبيلا، فالشريعة الإسلامية نصوصها واضحة المعالم لا طلاسم فيها لمن استقاها من منبعها الأصلي - إن ذلك المسلم الذي يستمع إلى ذلك الفقيه الذي يقول إن في هذه المسألة ثلاثة أقوال أو أربعة فإن ذلك السامع يتملكه العجب في ذلك ويذهب ويتساءل أليست الشريعة الإسلامية واضحة المعالم كالشمس في رابعة النهار.. فلماذا هذه الأقوال المختلفة!! ومن ثم يكون هذا المتسائل في حيرة من أمره تجاه الدين الإسلامي.. إني على يقين تام لو أن الأمة الإسلامية اقتربت من كتاب الله -لا أقول اقتراباً مادياً فحسب بل اقتراباً معنوياً- لسلمنا من هذا الاختلاف ولسُطر لنا فقه نير متين خلاق يقود الأمة إلى الخلاص من الأزمات الخانقة وليزلفها إلى أفق أرحب تكون أعلى كعبا فيه بين الأمم والشعوب ليس في الناتج الديني فحسب، بل في كل ناتج حضاري. إن القرآن الذي بين أيدينا يجب أن يكون له فقهاء في كل مضمار من مضامير العلوم إن تعذر وجود فقيه يلم بها جميعا. إنه يوم كانت الأمة الإسلامية تغرف من هذا الكتاب كانت الأمم تتسابق إلى الوصول إلينا فكانوا عالة علينا آنذاك فكرياً وحضارياً - بعكس ما نحن عليه اليوم فصرنا عالة عليهم ونسقط على موائدهم.. ما أريد أن أخلص إليه في مقالي هو أن تحيز أنصار هذا المذهب أو ذاك يحرمنا من تلك الأشياء الصحيحة عند غيرنا، وبالوقت نفسه يضفي على أفكاره قداسة ولو كانت خاطئة، وطالما أني بصدد تقارب المذاهب وتحاورها مع بعضها البعض واستدراك الواحد منها على الآخر فإني أحب أن ينمو عند علمائنا الأفاضل الجرأة والثقة في النفس من أجل التصدي للأخطاء التي وجدت في ثنايا هذه المذاهب، ولماذا نكون هيابين في ذلك - أليس بأيدينا ما بأيديهم! ولهم عقول ولنا عقول! والله تعالى أثنى على السابق واللاحق في فهم دينه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} سورة اجعة 2- 3. وأخيراً يجب أن لا يفوتني شكر سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله ورعاه على هذا الرأي السديد والرؤية الثاقبة حول سعيه إلى لم شتات هذه الأمة تحت مظلة واحدة ستفضي بالأمة إلى إيجاد قواسم مشتركة من أجل الوحدة والوئام مجتمعة على أسس واحدة ولواء واحد - فما أحوج الأمة اليوم إلى هذه اللفتة من الملك عبدالله فكفانا تمزقاً في زمن ليس فيه مكان إلا لأولئك الذين هم تحت لواء واحد بل إن خادم الحرمين حفظه الله قد ذهب إلى أبعد من ذلك فأتى بأطروحات تلم شعث البشرية جميعا وذلك في أطروحاته حول حوار الأديان من أجل العيش بسلام.. إن البشرية جمعاء تفخر أن يوجد بينها شخص ينادي بمثل هذه التعاليم ويسعى لها ويذلل الصعوبات التي تعترضها.. حفظك الله يا سيدي وكثر من أمثالك وجعلها في ميزان حسناتك وجعلك ذخراً للإسلام والمسلمين وللبشرية جمعاء. * بريدة