هناك فرق شاسع واضح بين من يكتب أو يتحدث ، منتقداً مظاهر أو أوضاعاً سلبية في الوطن بهدف إصلاحها ، لأنه يحب الوطن ويحلم أن يراه كاملاً ، ولا يقبل أن يرى فيه أي نقص ، لاسيما من ذلك النوع من النقص المقدور على إتمامه ، وبين من يكتب أو يتحدث منتقداً تلك الأوضاع أو الظواهر نفسها ، ولكن بهدف اقتلاع الوطن نفسه، وذلك عن طريق النقد الذي يتوجه إلى التشكيك في إمكانية الإصلاح أو استحالتها ، وإلى بث روح الإحباط والتشاؤم ، واستفزاز مشاعر المواطنين عن طريق تضخيم الأخطاء وإلباسها نوايا القصدية والتعمد بهدف جعلها رمزاً لحال الوطن كله ، فكلما ظهرت إضاءة مشروع حضاري هام ، أو بادرة إصلاح جيدة لخطأ أو فساد ، قفز من فوقها إلى رمزه الذي نصبه لتذكير الناس بالسوء وشحنهم بالكراهية ، ودفعهم إلى استصغار ما يحدث من إصلاح وبناء. إنه ليس من حقي ، ولا أستطيع أن أتهم أحداً بعينه ، وأقول هذا أو هذه لا ينتقد من أجل الإصلاح ، وإنما لهدف آخر هو هدم البيت على رؤوسنا كلنا ، ليس من حقي ولا أستطيع ، لكن ليس من حق أحد ولا أحد يستطيع أن يمنع حواسي وحواس غيري من الرصد والالتقاط والتحليل والتأمل ، وهذه مميزات بشرية لا يملك حرماني ولا حرمان أحد غيري منها إلاّ القوي الأكبر الذي خلق ورزق وأنعم وابتلى جلَّ جلاله ، ولهذا فإن (اللبيب بالإشارة يفهم) ، و (من على راسه ريشه يتحسس عليها). أمس قرأت للزميل العزيز خالد السليمان في صحيفة عكاظ جملة رائعة أختلف معه في آخر كلمة فيها ، يقول خالد في جهاته الخمس (إن الذي بيني وبين أي إنسان على وجه هذه الأرض هو هذا الوطن ، من أحسن إليه أحسنت ومن أساء إليه أسأت). نقطة الاختلاف هي (أسأت) ، وأنا أعرف أن خالداً لا يسيء لأحد ، لكنه ناقش مصطلح (درء الفتنة) الذي يستخدمه البعض على طريقة (كلمة حق أريد بها باطل) ، وذلك لتمرير أساليب معيِّنة لخدمة أجندات معروفة هدفها الإساءة للوطن إساءة بالغة وعميقة بملامس أفعى تستخدم نعومتها حتى تتمكن من غرس أنيابها ودفق سمومها بلا رحمة ولا هوادة ، وقد فعلت تلك الأفعى المتلبسة بالدين والصلاح والإصلاح ما فعلت ، وكان خالد السليمان أحد الراصدين بصفته قارئاً ومتابعاً ومثقفاً ، وأحد المكتوين والمكلومين بصفته مواطناً ، لكنني حين أختلف معه في (أسأت) ، فلأنني أعرف أن قصده الإيضاح ، على اعتبار أن إيضاح الحقيقة لمن يسيء للوطن يعد إساءة إليه ، فالذي هدفه الإساءة يشعر بأن كل من يرشده إلى الصواب أو الحق يسيء إلى مشروعه ويكشف هدفه ، وعلى هذا فالاختلاف بين السليمان وبيني لفظي لا مضموني ، وقد استطردت هنا لا من أجل السليمان ، وإنما من أجل آخرين سمتهم الزميلة هدى اليامي في تحليلها العميق المنشور اليوم في القسم السياسي ب (الماضويين) ، وسميتهم في مقالات سابقة ب (الشعاراتيين) ، والزميلان المشار إليهما في تحليل اليامي ليسا (هامشيين) ، بل هما من عتاة الصحافة والكتابة وأساتذتها ، ولكنهما استيقظا فجأة على تساقط الرموز المعنوية والحسية التي مجداها عقوداً ، وهما سواءً كانا مخدوعين أو واعيين بما كانا يفعلان ، نسيا أو تجاهلا أن دول الخليج وفي مقدمتها المملكة تضم بشراً دخلوا المدرسة وتعلموا ورأوا ومن الطبيعي أن ينهضوا ببلدانهم وأهلها ، وأن من حقهم أن يتصدَّروا المشهد العربي وحتى العالمي ، طالما أنهم وظفوا فلوس (نفطهم) في تعليم أنفسهم ونهضة بلدانهم وإعانة أشقائهم في كافة البلدان العربية. لقد قبلنا ومازلنا نقبل وتحملنا ومازلنا نتحمل نقد وتوجيه إخواننا (الكبار) في الصحافة العربية ، ونقدِّرهم ونحترمهم ، بل حتى الذين ابتزونا منهم دهراً لم نسئ لأحد منهم ، وإنما كنا ومازلنا من جماعة (عفا الله عما سلف) ، لكننا نرجوهم الآن أن يسمحوا لنا أن نوضِّح لهم الحقائق التي نسوها أو التي تجاهلوها فقد أصبحنا نستطيع الإيضاح ، ولم نعد (هامشيين) كما كانوا ومازالوا يسموننا ، ولا أظن الإيضاح يضايق أحداً منهم ، فهم كبار ، ومن أبرز مميزات الكبار العقلاء أنهم لا يضيقون بالحق ، ولا تغضبهم الحقيقة. قد يقول قائل ، ما الرابط بين نوعي نقاد الوطن في بداية المقال ، ودرء الفتنة في منتصفه والإخوان العرب الكبار في آخره ، والرابط ببساطة أن (شعاراتيي) عواصمنا العربية الذين تساقطت أمام أعينهم شعاراتهم ورموزها ، لهم أنصار ومريدون ومحبون ومقتنعون من إخواننا وأبنائنا هنا داخل الوطن ، قد يتنوع الخطاب ، وتتعدد آليات التكتيك لكن الهدف واحد ، والذي نحمد الله عليه أنهم جميعاً مكشوفون ، الخطاب مكشوف والتكتيك مكشوف ، والتنوع في العزف مكشوف ، ووسائل التقنية الحديثة التي استخدموها بمهارة لكشف فضائح وسوءات البعض وسلبيات آخرين وترويجها لأهداف أخرى ، هي الوسائل ذاتها التي كشفت النوايا عندهم ، وفضحت المستور في تاريخهم وحاضرهم ، والذين كانوا ومازالوا في أعين هؤلاء (هامشيين) وعالة على الحياة والمتحضرين ، أصبحوا اليوم يعرفون أين موقعهم الطبيعي من الجغرافيا والتاريخ والتحضر والعلم والقيادة ، وقادرون على حماية أنفسهم ووطنهم حاضراً ومستقبلاً.