الربيع العربي قفز بالمتدينين إلى كراسي السلطة، لأسباب كثيرة: منها أنهم يمثلون حبل النجاة في مجتمعات عربية غارقة في الفساد من قمة رأسها إلى أخمصي قدميها ، وهؤلاء الفاسدون المفسدون الذين أهلكوا الحرث والنسل محسوبون على تيارات مناهضة للدين سرا أو علانية. ومنها أن الأمة جربت على مدى عقود من الزمن النصيرية والناصرية فلم تنتصر ، والقومية فلم تقم لها قائمة ، والبعث فلم يبعث سوى الموت المجاني وأم المعارك ، والاشتراكية فلم يشترك الناس إلا في الفقر والجهل والمرض. وكانت النتائج هزائم متوالية ، وفضائح متتالية. ومنها أن الأنظمة العربية الفاسدة من حيث لم تشعر أوقدت بطغيانها واستبدادها جمرة الكراهية ، وحرست بعريها الفكري والسياسي نداء الفطرة النقية لدى الشعوب ، التي تشكلت في رؤية جمعية وأخذت طابع العمل المنظم في المدارس والجامعات والنقابات فأتى الله الطغاة من حيث لم يحتسبوا. فالبطش السياسي والقبضة الأمنية والنهب المنظم للمال العام وانتشار مدن الصفيح وتنامي الظلم والبطالة حفز الناس في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا وسيحفزهم في البقية الباقية للبحث عن بطل منقذ من هذا التيه الحضاري. المتدينون كانوا الأقرب إلى الناس لما يحملونه من فكر وممارسات ، جاهد الطغاة لإطفاء نورها ، وإلباسها التهم وتنفير الناس منها بكل ما يملكون من قوة ، ولكن قوة الفعل دائما تولد ردة فعل مساوية في القوة ومعاكسة في الاتجاه ، فالتف الناس حول الأفكار وتركوا الأشياء ، وصنعوا ثورة الياسمين العربي التي تعد أهم إنجاز للشعوب العربية في العصر الحديث. سالت الدماء في كل مكان ، وقاوم الطغاة ، ولكن حلت العقوبة ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، وانتصرت الأمة على ذاتها عندما كسرت حواجز الخوف ، وكفرت بالطغيان ، ورددت بصوت واحد: ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر. وهاهم المتدينون اليوم على العرش السياسي فماذا هم صانعون؟. إن الفتنة اليوم أشد ؛ لأن الانتصار الحقيقي هو الانتصار على الذات ، والخروج من قفص الماضي ، ونبذ ثقافة التنافي والكراهية ، والبحث عن الأجمل والأنقى والأبقى ، والعاقبة للتقوى. إنهم اليوم في قاعة اختبار موحد لمعرفة النوايا والقدرات ، والنتيجة لن تقبل القسمة على اثنين ، فإما نجاح ساحق ، وإما سقوط ماحق. ولن يسمح التاريخ بإعادة الاختبار مرة أخرى ، ولن يقبل الناس ، فقد سئم الناس حياة الذل والمهانة والمعتقلات والفقر والاستبداد ، وذاقوا طعم الحرية ، وويل لهؤلاء المتدينين لو سقطوا في فخ السلطة فسيكون العقاب شديدا ، والنتيجة أكثر سوءا. والبدايات اليوم مشجعة ، ولكن المحاسبة واستشعار الأخطار وحساب المصالح والمبادئ بحاجة إلى قادة من نوع مختلف ، يتقون فيرتقون ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. لقد هزم العرب في كل مشاريعهم الحضارية والثقافية وحروبهم العسكرية ؛ لأن الإنسان كان خارج المعادلة ، فقد فقد الإنسان كرامته وإنسانيته ، وشعوره بالانتماء ، وتحليه بروح المبادرة ، ولن تتحقق نهضتنا الجديدة إلا باستعادة هذا الإنسان ، وإعادته لحركة الحياة والتاريخ ، ليكون صانعا للحياة ، وبطلا من أبطال التاريخ ، ولا يوجد إنسان عظيم بلا ابتلاء عظيم ، وهذا الربيع هو ثمرة ذلك الجحيم. فقط علينا أن نتعلم من التاريخ.