صحيفة التميز الالكترونيه / مكهالمكرمه كان الطاغية الهالك بورقيبة يلقب بالرئيس الأبدي بعد أن تمت صناعته في فرنسا برعاية الدول الغربية، وأعادته إلى تونس بطلا مناضلا ليلغي حكم محمد الأمين باي الملكي، ويعلن الجمهورية ويكون أول رئيس لها عام 1956م ويقدم الثمن لفرنسا والغربيين بالثورة على الشريعة الإسلامية، عبر مجلة الأحوال الشخصية التي ألغى فيها جملة من الأحكام الشرعية المحكمة كان أشهرها تعدد الزوجات، وتجريم من فعل ذلك، وإباحة البغاء وسن قانون له.. وفي ثورة الخبز حين رفعت الحكومة سعره عام 1984م استدعى بورقيبة سفير تونس في وارسو بولنداعلي زين العابدين، وعينه مدير عام الأمن الوطني، ثم وزيرا للداخلية، فرئيسا للوزراء في 1987م؛ لينقلب عليه بعد شهر وينتزع الحكم منه. وأذكر آنذاك وفي أول إجراء مخادع للطاغية بن علي بعد توليه الرئاسة أنه صار يبث أذان الحرم من مكة في التلفزة التونسية، فاستبشر به من لا يعرفه كونه كان بديلا عن الطاغية بورقيبة، وكنا وقتها طلابا في الكلية، فبادرنا شيخ جليل قد عركته الحياة، وخبر أساليب الطغاة، قائلا: لا تغتروا به، فهو صناعة فرنسية، ولن يكون إلا كسلفه إن لم يكن أشد منه.. فكان كما قال شيخنا جزاه الله تعالى عنا خيرا.. ومضى طاغوت تونس في طغيانه واستبداده ثلاثا وعشرين سنة يحارب الإسلام، ويكرس الاستبداد، ويخنق شعبه، إلى ما قبل خمسة أسابيع؛ إذ وقعت حادثة محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه يوم الجمعة 11محرم؛ تعبيراً عن غضبه على بطالته ومصادرة العربة التي يبيع عليها شيئا من الخضار ليسد جوعه وجوع أسرته، ومن ثم قيام شرطية تونسية بصفعه أمام الملأ، ولم يجد أحدا ينصفه، وتوفي يوم الثلاثاء 29 محرم نتيجة الحروق, فاندلعت في اليوم الذي يليه المظاهرات التي ما لبثت أن عمت أرجاء تونس لتصبح ثورة عارمة، ونزل الجيش بأوامر الطاغية ليقمع الناس ويسفك دماءهم، ولكن الجيش خذله إذ قلب مهمته إلى حماية المتظاهرين من أجهزة الأمن الداخلي والأمن الرئاسي، ليتفاقم الأمر ويهرب الطاغية الجبان بن علي خارج البلاد أمس الجمعة، ويتولى الوزير الأول محمد الغنوشي رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة، وأعلنت حالة الطوارئ مع حظر التجول التي تمنع أي تجمع يزيد على ثلاثة أشخاص, مع فرض حظر التجول بين الخامسة مساءً والسابعة صباحا، إلى ساعة كتابة هذا المقال.. وفي هذا الحدث من العبر والعظات الشيء الكثير: فمن عبر هذا الحدث: أن نهايات الظلمة الطغاة تتكرر على الناس كل حين لأخذ العظة والعبرة؛ فإن في كوامن النفس البشرية من شهوة الظلم والطغيان والبغي ما فيها لولا أن الدين والأخلاق والتربية تهذبها، وتردها, إلى رشدها، وتقبح لها الظلم والطغيان.. وقد رأى الناس عبر الشاشات الطاغية التونسي وهو يتحدث ذليلا مرتبكا، يستجدي شعبه طالباً إطفاء ثورته، ويكرر قوله: أنا فهمتكم، ولا رئاسة مدى الحياة، مدعيا أن الحقائق لا تنقل إليه، واعدا بفجر جديد تنطلق فيه حرية التعبير...ألخ..فيا لله العظيم ما أجبن الطغاة المتكبرين!! تذكرت وأنا أستمع إلى خطابه المشهد القصصي القرآني لنهاية فرعون الذي جاءته النذر من بين يديه ومن خلفه فلم يأبه بها [حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ] {يونس:90} ثلاث وعشرون سنة لم يفهم هذا الطاغية شعبه، ولما ضاق الخناق على رقبته ادعى الآن أنه فهمهم..وليس إلا كما قال الله تعالى [بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] {الأنعام:28} وينبغي ألا يعزب عن بال المؤمن المعتبر أن الطغيان والظلم إن كان صفة بشرية ملازمة للإنسان [إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا] {الأحزاب:72} فإنه لا يظهر عليها إلا حال القدرة على الظلم بامتلاك السلطة والنفوذ.. وكل بحسبه؛ فطغيان الرئيس أظهر من طغيان الوزير وأكثر أثرا، وطغيان الوزير أظهر من طغيان المدير..وهكذا.. وليس الطغيان والظلم خاصا بأصحاب الولايات العظمى بل قد يظلم الضعيف من هو أضعف منه، ومن هم تحت ولايته من زوج وولد ونحوهم، ويطغى عليهم بسلطته، فليفتش كل واحد عن قلبه، وليتفحصه جيدا ليطفئ جذوة الظلم والطغيان فيه بماء العبودية لله تعالى، والخضوع له، واتباع شريعته التي أمرت بالعدل والإحسان، ونهت عن الظلم والطغيان.. وكثيرا ما يكون الإنسان غافلا عن ذلك، فيرى مصارع الظالمين، ويسمع عن نهايات الطغاة فيحمد الله تعالى الذي عافاه مما ابتلاهم به، وهو فيه ما فيهم من الظلم والطغيان لكن لم يُمكن له، فوقع في ظلم على قدر نفوذه وقدرته.. ومن عبر هذا الحدث: أنه مهما بلغت قوة الطاغية وقبضته الحديدية على شعبه، فإن سقوطه إذا أراد الله تعالى سيكون بحيث لا يتوقع، وتلك سنة الله تعالى في الظالمين أن يذلهم على أيدي أقرب الناس إليهم، ويسقطهم بأهون الأسباب عليهم، [إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ] {يوسف:100} [فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا] {الحشر:2}. والطاغية بورقيبة قد قرب بن علي وأتى به من وارسو ليطيح به، وطاغية رومانيا شاوشيسكو كان يتلاعب بالشعب الروماني هو وزوجته وولده، ويعدونه ملكا لهم، وقد أحكم قبضته على الشعب الروماني بحيث لا يصدق أحد سقوطه، ونظمت مخابراته مظاهرة مضادة لمظاهرة احتجاجية على قتل المخابرات لمجموعة من السجناء، لكن الحشود الهائلة لما تجمعت في الساحة العامة في بوخارست فتجرأ بعض الناس وهتف بسقوط الدكتاتور شاوشيسكو وتبعه الناس فانقلبت المظاهرة المؤيدة للطاغية إلى معارضة له حتى أسقطته، واختطفه العسكر وزوجته من قصره بطائرة عمودية وحاكموه وأعدموه، وكانت زوجته التي ألفت الطغيان معه تقول له: كيف تسمح لهؤلاء الضباط الوقحين أن يتكلموا معك بهذه الطريقة؟! وهي لا تدري ما ينتظرهما فأجابها: من الجميل أن نموت معاً... وقد طلب المحاكمون له ثلاثة ليتبرعوا بإعدامه وزوجته فتبرع ثلاث مئة فأعدموههما. ومن عبر هذا الحدث: أن حلاوة السلطة والجاه والمال والأمر والنهي تتبدد عند أول دركات الخوف، وتنتهي فور علمه بفقدانه لسلطانه، وتستحيل إلى مرارة وألم يتمنى صاحبها إذ ذاك أنه لم يل من أمر الناس شيئا.. بل يتمنى الموت ولا يجده، فما أشد الذل والهوان بعد العز والجبروت.. ولا بد لكل صاحب ولاية أن يستحضر أثناء استمتاعه بحلاوة تسلم ولايته مرارة انتزاعها منه؛ لئلا يبطر على الناس فيظلمهم ويمارس طغيانه عليهم.. وأنى للجهلة والغافلين تذكر ذلك؟ّ! وأنى لهم تذكر آيات الله تعالى المرهبة من جميع أنواع الظلم بما فيه رفض الشريعة الربانية وتقديم الأهواء البشرية عليها [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ] {السجدة:22} وهذا التذكير الرباني نسمعه في كل جمعة تقريبا. ويتبرأ من الطاغوت كل من له به صلة من قرابة وصداقة ومصاهرة وغيرها؛ لأنهم يصبحون هدفا للجماهير الهادرة الغاضبة لصلتهم بالطاغية المستبد، فهم شركاء في الغرم كما كانوا من قبل شركاء في الغنم.. وكم تعجبت وأنا أسمع تصريحات جامعة الدول العربية، والدول الإقليمية الكبرى وهي تعلن بصراحة: احترام خيار الشعب التونسي.. فلم لم تحترم الجامعة والدول الإقليمية رغبة الشعب التونسي إلا لما أسقط الطاغية وهو الذي أمضى ربع قرن من إرهاب هذا الشعب المسكين، وكان الطاغوت الهارب محل حفاوة وتكريم وتبجيل عندهم؟! ولم لا ينتبهون لشعوبهم كيلا تغضب عليهم غضبة الشعب التونسي فتقتلعهم من عروشهم؟!! فإذا كان هذا الذل والهوان يحيط بصاحب الولاية في الدنيا حال انتزاعها منه ببراءة الناس كلهم منه فكيف بذل الآخرة وخوفها وحسابها وشدة العقاب فيها، وكيف به وهو يرى صفوف المظلومين وازدحامهم يطالبون بالقصاص ممن ظلموهم من جبابرة الأرض وسلاطينهم، فيا لله العظيم.. ما أرهبه من موقف من استحضره فلن يفتر لسانه سائلا ربه خمول الذكر، ووضاعة نفسه عن الجاه في الدنيا [وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ] {الشُّورى:45}. ولولا ضعف الإيمان وكثرة النسيان لما ولي مؤمن من أمر الناس شيئا خوفا من التبعات. ومن عبر هذا الحدث: أن الحبل الغربي الممدود للطغاة والمستبدين يقطع عنهم عند حاجة الطغاة إليه؛ لأن الغربيين يستعملون هؤلاء الطغاة مناديل لمسح أوساخهم، فإذا سقط الطاغية تخلوا عنه وهو في أمس الحاجة إليهم، وقد كان شاه إيران عبد أمريكا وبريطانيا، وراعي لبراليتهم ومسوقها في منطقة الشرق الإسلامي، وشرطيهم فيها، وعينهم على حكوماتها، وأمينهم على مصالحهم فيها، ولما انتهت صلاحيته، أخرجوا الخميني بعد تفاهمهم معه من فرنسا ليقود الثورة ضد عميلهم الشاه، الذي ظل يستجدي دولة تؤويه ليموت فيها، فرفضته الدول الكبرى لتستقبله مصر فيموت فيها، ووقتها خطب الشيخ كشك رحمه الله تعالى خطبة بليغة مؤثرة جدا أجزم أنها أبلغ خطبة له، استمعت إليها عشر مرات أو أكثر فما مللتها. وطاغية تونس لم تستقبله فرنسا التي كان ينفذ أجندتها الفرنكفونية إلى آخر لحظة من حكمه إذ رفضته ولم تستقبله، ومنت عليه السعودية بشروطها، فما أهون العملاء الطغاة على سادتهم الغربيين يلفظونهم ويتخلون عنهم في أشد الظروف قسوة!! ومن عبر هذا الحدث: أنه لا تأمين للمستقبل إلا في التعامل مع الله تعالى، وأي تأمين للنفس أو الولد بغير الله تعالى فمصيره الخذلان والضياع [فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] {يوسف:64} (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) فأكثر الظلمة الطغاة حين ينهبون ثروات شعوبهم ويستبدون بالأمر دونهم، ويقهرونهم في معيشتهم، ويتخذونهم سخرة لهم ولذويهم فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لعلمهم أنه لا دوام لهم في السلطة التي حتما ستنتقل إلى غيرهم، فعند تقلدهم لمقاليدها تكون عين الواحد منهم اليمنى على خزائن الدولة وثرواتها لنهب أكبر قدر منها، والعين اليسرى على التجار الناجحين لإدخال ذوي الرئيس شركاء لهم في أرزاقهم بالقوة.. هذا غير الجباية المستمرة من أرزاق الناس وأقواتهم عبر المكوس، وكل ذلك لتأمين مستقبل أهله وولده.. ولكن الطغاة يجهلون أنه لا أمان للعبد إذا أراد الله تعالى خوفه، ولا غنى له إن أراد فقره.. وصدام حسين قتل أولاده أمامه، وشاهد مقتلهم وهو مختبئ في حفرة لا يملك لهم شيئا، وشردت بناته، وصودرت أمواله.. وقبله شاه إيران الذي جمع خمسة وثلاثين مليار دولار، سقطت كلها بسقوطه وتحفظت البنوك الدولية عليها بعد انتهاء حكمه، وقبل أيام انتحر ابنه علي في أمريكا. وفي المقابل لما حضرت الوفاة الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله وقد كان شديد التوقي في بيت المال، قيل له: لو أوصيت لأحد بولدك فلا مال لهم، فقال رحمه الله تعالى: وصيي وولي فيهم الله الذي نزل الكتاب بالحق.. وهو يتولى الصالحين، وورث كل واحد منهم من أبيه وهم أحد عشر ابنا تسعة عشر درهما فقط، وتتابع الرواة والمؤرخون يرقبون حالهم بعد مقولة أبيهم فما افتقر منهم أحد، ومنهم من حمل على مئة فرس في سبيل الله تعالى من الغنى والجدة.. إن على من ولي ولاية صغيرة كانت أم كبيرة أن يتقي الله تعالى في أموال المسلمين، فلا يبددها على ذويه، ولا يتصرف في ولايته كأنها ملكه وملك ولده، ومن أقلقه مستقبل أولاده من بعده فليعلم أنه لا أمان لهم إلا بالله تعالى، وأمان الله تعالى لا ينال بمعصيته، وبسلب بيت المال ومقدرات الشعوب.. فهاهم أولاء ملوك العالم المخلوعون والمقتولون أين ثرواتهم الطائلة؟ّ! وما خلفوه لزوجاتهم وأولادهم؟! لقد ذهب مع ذهابهم، وسلط عليه من هم أقوى منهم فحجروا عليه أو نهبوه.. ومن عبر هذا الحدث: أنه لا يجمع على الشعوب بين الكفر والفقر، وإلا ثارت على زعمائها، فالشعوب قد ترضى بسلب دينها إبقاء لدنياها، أو بسلب دنياها مع بقاء دينها، أما أن يسلب الاثنان فمحال أن تسكت.. وأوربا في ثورات الحرية حين سلبت من الشعوب الغربية دينها النصراني المحرف أغنتها من جهة الدنيا فرضيت واستكانت، ولو لم تغنها لثارت، فلا يحتمل الإنسان ضياع دينه ودنياه دفعة واحدة.. وأكثر الحكومات العربية تريد سلب شعوبها دنياها بنهب الثروات، وتسهيل الامتيازات للشركات الغربية التي تمارس السطو الكبير على ثروات العالم العربي والإسلامي ومقدرات الشعوب فيها عن طريق وكلائها وعملائها حتى أفقروها، وطاردوا المساكين في أقواتهم ودوائهم وحليب أطفالهم.. وفي الوقت ذاته يريدون سلب دينهم عبر علميات التغريب والمسخ الليبرالية التي تنشط في العالم الإسلامي بشكل قوي جدا لمكافحة المد الإسلامي السلفي الذي ظهرت شعائره على السطح الأوربي بانتشار شعيرة ستر المرأة وجهها، وشعيرة إعفاء اللحى. فالشعوب المستضامة قد تصبر على فقرها وعوزها استبقاء لدينها، وترى أنها إن فقدت الراحة في الدنيا فهي موعودة بالجنة في الآخرة، وأما إن ضيق عليها في دينها مع التضييق عليها في دنياها فماذا أبقى الطغاة لها؟! ولن تكون النتيجة إلا ثورة عارمة لا تبقي ولا تذر، كما وقع في تونس.. ولذا فإن التيارات الليبرالية حين تسارع في فرض المشروعات التغريبية، وتفرضها بالقرار السياسي، والاستبداد البوليسي في بلاد المسلمين فهي تسعى لإثارة الشعوب وتحريضها على الثورة على حكوماتها ونشر الفوضى فيها، وتعجل بسقوطها قصدت ذلك أم لم تقصده، وهاهم أولاء دعاة الفرنكفونية الفرنسيين المغاربة الذين كانوا يطيرون بطائراتهم الخاصة للإشراف على مصالح فرنسا في المغرب العربي، ويوصون الحكومات المغاربية باستئصال الدين الإسلامي من نفوس أبنائه.. هاهم أولاء يتمتعون بالعيش الرغيد في فرنسا، ولم ينفعوا الرئيس التونسي لما سقط ولا حتى باللجوء السياسي في بلدهم التي يخدمونها، وتركوا الشعب التونسي يواجه مصيرا مظلما لا يدري متى يخرج من نفق هذه الأزمة المفاجئة. ومن عبر هذا الحدث: أن الطغاة المستبدين وأعوانهم لا يكفيهم ما أحدثوه من خراب في البلاد، وظلم للعباد في فترة حكمهم التي قد تمتد إلى عقود كثيرة، إذ يعمدون في الرمق الأخير لحكمهم إلى سياسة الأرض المحروقة حال مغادرتهم للبلاد، وينشرون الفوضى في أرجائها، من باب مبدأ: علي وعلى أعدائي، وتكون الشعوب ضحية لهذه السياسة القذرة، وليس بعيدا عن الذاكرة ما فعله جنرالات فرنسا في الجزائر حينما كانوا يشكلون مليشيات وعصابات متخفية تقتل الناس باسم الجماعات المسلحة الإسلامية للانتقام ممن صوتوا لجبهة الإنقاذ من جهة؛ ولتشويه صورة الإسلام والمنتسبين له من جهة أخرى، حتى ظهرت شهادات عدد من الضباط والجنود الجزائريين الذين فضحوا جنرالات فرنسا وما يمارسونه من سياسة الأرض المحروقة كشهادة حبيب سويدية في كتابه: الحرب القذرة.. وفي أحداث تونس ذكر النقيب أحمد عبد المولى أن خلايا الأمن الرئاسي تحدث فوضى ونهب واعتداء في شوارع تونس.. وذلك بعد هروب الرئيس بن علي.. ومثل هذه التصرفات الحقيرة من أزلام الرئيس هي إصرار على التخريب والتدمير، فإما أن تكون البلد في قبضتنا البوليسية الاستبدادية أو ندمرها على أهلها.. ولأن ما وقع في تونس قد يتكرر في بلد إسلامي آخر فإن الواجب على الناس الصدور عن العلماء والعقلاء في حال حدوث مثل ذلك؛ لئلا تدب الفوضى ويستحر القتل في الناس، كما يجب على العلماء في البلاد الإسلامية دوام التواصل مع أهل الرأي والفهم السياسي من المخلصين سواء كانوا أكاديميين أم ذوي أحزاب أم مستقلين؛ فمن الملاحظ أن ثمة قطيعة أو فتورا في العلاقات بين أصحاب التخصصات السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها وبين العلماء والدعاة في أكثر الدول الإسلامية إن لم يكن كلها، فإذا ما وقعت أزمة سياسية كالتي تحدث في تونس الآن لم يوجد من يملأ الفراغ السياسي، وأضحى الناس فوضى لا سراة لهم، وربما اختطف الدولة وقطف ثمار الثورة من هم مثل من ثار الناس عليه أو أسوأ منه، فيعود الناس كما كانوا من قبل.. ومن عبر هذا الحدث: أن التاريخ وإن كان لا يكتبه إلا الأقوياء المنتصرون فإن للضعفاء المقهورين نصيبا منه يفلت من قبضة المستبدين، وأظن أن محمد بوعزيزي الذي أشعل هذه الثورة التونسية بانتحاره حرقا سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وسيرابط الكتاب والمؤرخون الغربيون والإعلاميون على أبواب أسرته، وسيتصلون بكل معارفه، وستؤلف عنه الكتب والدراسات والروايات؛ لكونه رمزا للنضال الوطني حين قدم حياته احتجاجا على مظلمة أصابته.. ومع ما في هذه التضحية الكبيرة من مثل عليا تجنح النفس البشرية إليها، وتعجب بأصحابها بغض النظر عن دينهم وجنسهم ولغتهم؛ لأنه وقوف في وجه الظلم والظالمين، كما أعجبوا من قبل بالثائر اليساري تشي جيفارا، وبنضال الأفريقي الأمريكي مارتن لوثر كنج ضد العنصرية، وبنضال مانديلا في جنوب إفريقية، وبثبات صدام أمام الإمريكان والرافضة حتى أعدم، وبمناكفة شافيز لأمريكا وعدم خضوعه لها، وأمثالهم كثير في التاريخ القديم والحديث.. مع ما في ذلك كله فإن لأهل السنة والجماعة ميزانا شرعيا يزنون به الوسائل والمقاصد؛ فالاعتراض على الظلم والإنكار على الظالم عمل نبيل جليل لا شك فيه حتى كان أفضل الجهاد في الإسلام كلمة حق عند سلطان جائر، ومن سادة الشهداء رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه فقتله.. لكن لا يجوز ذلك إلا بالوسائل المأذون بها شرعا، وقتل الإنسان نفسه وبالنار أيضاً يتضمن مخالفتين، هما الانتحار وهو كبيرة متوعد صاحبها بالعذاب، والإحراق بالنار منهي عن جعله طريقة للقتل؛ لأنه لا يجوز التعذيب بعذاب الله تعالى.. ومهما كان المقصد النبيل لمحمد بوعزيزي في رفض الظلم فإنه لا يسوغ ما عمل بنفسه، وحكمه الشرعي أنه تحت المشيئة كما هو مذهب أهل السنة، إن شاء الله تعالى غفر له، وإن شاء عذبه، لكنه لا يخرج بسبب كبيرته من الإيمان، وقد قرأت لكتاب وسمعت لإعلاميين تناولوا هذا الحدث فقفزوا على النصوص الشرعية وشهدوا له بالشهادة، وأفاضوا على صنيعه عبارات الثناء والتبجيل بلا تحفظ ولا استثناء مما قد يقدح في أذهان كثير من العامة أن ما عمله مشروع، وواجب العلماء والدعاة التنبيه على ذلك، وعدم محاباة أحد في دين الله تعالى.. ومن عبر هذا الحدث: أن الطغاة والمستبدين مهما سخروا من وسائل إعلامية لتلميع صورتهم أمام الناس فإن الله تعالى يفضحهم، ويكشف للناس خبيئتهم، ويهتك على الملأ سترهم.. وقد كان الاتحاد السوفيتي زمن التسويق الاشتراكي في حكم لينين وستالين ينتج ربع الإنتاج العالمي الثقافي كتبا وصحفا ومجلات وبكافة اللغات، حتى سوق للاشتراكية وغزا بها أكثر الدول، واقتحم بها الشعوب.. ثم ما لبث أن فضح شر فضيحة وسقطت الاشتراكية في مهدها، وتتابع أذنابها بالسقوط بعدها.. وكلما قرأت لمشايخ من الجمهوريات الإسلامية أو من الأزهر أو من الشام في الكتب التي نشرت أيام المد الاشتراكي أعجب كيف أن هذه القوة المستبدة استطاعت أن تسخرهم أبواقا لها.. فزالت هذه القوة، وماتت أبواقها الشرعية، وآثارهم لا تزال شاهدة عليهم، فاللهم ثبتنا على الحق.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.. وفي نظام تونس القمعي المستبد..كم زكاه من شيوخ النظام وهذا مفهوم -وإن لم يكونوا معذورين- لأنهم يخافون سطوة هذا النظام.. لكن من غير المفهوم أن يتبرع داعية ليس من بلادهم وفي غنى عنهم فيعطي النظام تزكية لا يحلم بها نظام أقل منه استبدادا وأكثر اعتدالا، ويطعن في المناضلين الإسلاميين، والثمن رحلة سياحية لتونس بضعة أيام، فما أرخص المبادئ والمواقف حين تباع بهذه الأثمان!! ولا أجد تفسيراً لذلك إلا أنه خذلان من الله تعالى، وإلا فكل المنظمات الحقوقية الدولية والعربية مجمعة على أن النظام التونسي في عهد الطاغية بن علي أشد أنظمة العالم قمعا واستبدادا في وقته.. ويأتي هذا الزلزال الشعبي ليكذب هذه التزكية الرخيصة، فهل يظفر الشعب التونسي بكلمة اعتذار من هذا الداعية..أتمنى ذلك.. وإن كنت أشك فيه.. بل لا أستبعد أن يقلب البوصلة باتجاه الشعب الثائر تمجيدا له ومدحا فيه وهو بالأمس يزكي قامعه.. ولن يعد ذلك تناقضا؛ لأننا في زمن الانقلابات وتقلبات القلوب.. وتبديل المواقف بحسب ما تمليه المصالح الشخصية..وكل ذلك يجري تحت لافتات الحرية والشفافية والأحلام المثالية ومدن أفلاطون الفاضلة.. فاللهم ثبتنا والمسلمين، واحفظ دماء إخواننا في تونس وأموالهم وأعراضهم وهيئ لهم من أمرهم رشداً، والحمد لله أولا وآخرا.. السبت 11/2/1432