ليس هناك أكثر خطراً على أي مجتمع إنساني من سريان روح التعصب فيه التي تؤدي إلى التنافي المتبادل بين مكوناته الدينية والاجتماعية والفكرية المختلفة ، وبينه وبين غيره من المجتمعات. فنتيجة التعصب هي أن يعيش المجتمع داخلياً في فتنة وتوتُّر وشحناء مستمرة ، وفي مواجهات تشعل فتيل العنف والاحتجاج ، وتؤدي إلى هدر الطاقة في معارك خاسرة بأكثر من معنى. ولا تستقل العصبية بأي معنى في تولُّدها وفي نتائجها عن العلاقات المشتركة مع المجتمعات الدولية ، فالمجتمع المتعصب متوتِّر مع العالم ومع المجتمعات المختلفة عنه ومتنابذ معها. وبهذا يؤول إلى مجتمع مشلول ومعزول وفقير في المعنى الإنساني ، و-في الحالات المتطرفة- إلى مجتمع خَطِر على الحضارة والسلام العالمي. وإذا كان التعصب مضاداً للمعنى الإنساني والعقلاني بشكل مبدئي ، فإن من البديهي ألا يكون للتعصب أي مستند صحيح في كل قيمة دينية أو اجتماعية مقنعة بذاتها لا بفرضها ، فالاختلاف طبيعي في الناس والمجتمعات ولن يكون الناس كلهم مثل فرد واحد. لكن التعصب غير الانتماء فلا أحد يعيش في العالم من دون انتماء حتى اللامنتمين إذا قرأنا كتاب كولن ولسون عن اللامنتمي ، ولهذا فإن الانتماء فرض طبيعي وثقافي واجتماعي (سلالة ، لغة، ثقافة ، دين ، علاقة بالإقليم ... إلخ) أما التعصب فهو صيغة فكرية أو اجتماعية نافية لغيرها ومنتقصة له وعدوانية عليه ، وهي عقدة نرجسية بالمصطلح الفرويدي ، ولكنها هذه المرة فيما يجاوز الفرد إلى الجماعة الدينية ، أو المذهبية ، أو الثقافية ، أو العرقية ، أو العشائرية ، أو الوطنية ... إلخ. ونظرة إلى التاريخ ترينا أن التعصب ضروري لولادة الديكتاتور ، وحاضنة للاستبداد الذي يوطِّد سلطته دوماً بالديماغوجية والعنف. فالتغذية متبادلة بين الجماعة المتعصِّبة وبطلها وهي تغذية تخلق الأوهام وتصدِّقها بما يشوِّه الطرفين ويعمل على إحكام دائرة الانغلاق والقهر والتجهيل من حولهما وذلك في مقابل المجتمعات المغايرة التي لا يرى فيها المتعصبون إلا ما يهدِّدهم وما هو أدنى منهم. وبالطبع فإن التعصب -هكذا- ذريعة الديكتاتور لتكميم أفواه من يطالب بالحرية والعدالة ، لأن تحقيق ذلك يعني الخرق لجدار التعصب الذي يتكئ عليه أو الهز للكرسي الذي يقعد عليه ، وهو في هذا التكميم غير ملوم إلا من غير المتعصبين. لكن التعصب دوماً ينتهي إلى الانقسام والتشظي ، فكل وحدة هي تأليف للمختلف ، والتعصب لا يؤلّف الاختلاف وإنما يقهره. ولهذا يمكن أن نرصد في كل حالات التعصب تولداً طردياً من الاختلاف والانقسام المتعصب الذي تتبادل ديماغوجية العنف اللفظي والمادي جماعاته المتولِّدة مع بعضها بعضاً وبدرجات تجاوز أحياناً العنف مع المغاير لها. وأتصور أن العالم يسير باتجاه الحد من التعصب ويتخلى تدريجياً عن كثير من شحنات العنف المتوقِّدة به ، وذلك بسبب إمكانيات الاتصال الحديثة وانفتاح أجزاء العالم على بعضها وبارتفاع منسوب التعليم المستنير وانتشار الثقافة الحديثة.