مشهد يتكرر لي شخصيا كل عام صبيحة الثاني من أيام عيد الفطر المبارك. أنتزع نفسي من الفراش المثقل بهموم السهر و (لخبطة) النوم لأهب مستبشرا بلقيا أستاذي الكبير محمد صلاح الدين .. أعايده ضحى في مكتبه الأنيق بشارع حائل. كان يحب العمل حد الغرق فيه .. لا يجد نفسه إلا بين السطور يقرأ ، أو في ثنايا الحرف والفكر يكتب. لقاء الدقائق القليلة يعني لي (ولمن رافقني إن حصل) لحظات أسبح فيها في فكر الرجل المستنير دوما ، وفي ذهنه المتقد باستمرار ، وفي عالمه المتسامح مع الآخر أيا كان. هي دروس تتكرر على فترات غير متباعدة ، فقد كنت حريصا على مواصلته زيارة أو مهاتفة كلما لاحت سانحة أو واتت فرصة. في داره شرفت بلقاء أحبة كرام مرات ومرات ، وفي رياض خبرته وعلمه وحكمته تعلمت دروسا وعظات. كان أخا كبيرا ومعلما فاضلا ، تكفي منه الإشارة ، ولا تصدر منه الكلمة الناقدة إلا عندما يرى كيلا مطففا أو ميزانا قد مال ميلا عظيما. هذا العام غاب المشهد الذي أحببت وترقبت ، بل انقطع إلى الأبد .. رحل الأستاذ الجليل إلى جوار رب عفو غفور رحمن رحيم ، بعد رحلة من الابتلاء الرباني الخالص الذي نرجو أن يكون تطهيرا لذنبه ورفعة لدرجته وارتقاء بمكانته في جناته جنات النعيم. كان رحمه الله غيورا على الوطن مشفقا عليه من كل خلل يؤثر في نسيجه المترابط أو فساد يضرب في أمنه المكين أو زيغ يحيد ببعض أبنائه عن النهج القويم. كان ينظر ببصيرة المؤمن المتمرس وفراسة الحصيف الأريب ، ويعبر عن قلقه بلغة الأديب وورع التقي وإيجاز الحكيم. في حياة كل منا محطات توقف يستحيل نسيانها. وبالنسبة لي ، فإن أبا عمر أهمها بلا منازع ، بل اكاد اجزم أن غيري كثير ممن افتقد التوقف عند هذه المحطة الإنسانية الكبرى .. لأنها باختصار واحة وارفة بالصدق والبر والإخاء ، فائضة بباسقات من الحكمة والأدب والثقافة والخلق الكريم والقدر الرفيع. اللهم هذا عبدك في رحابك ، فأفض عليه من واسع رحماتك ، وأسكنه في أعلى جناتك.