(هل الهوية لعنة وعقاب) الهوية جزء من التكوين الوجداني للإنسان بل وربما لغيره من الكائنات ، وهي مجمل السمات التي تميّز شيئاً عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها بحسب الموسوعة العالمية ، ومن خصائصها قابليتها للتمدد والاحتواء إذ هي تنطلق من هوية فرد إلى مجتمع إلى كيان يتجمع في ظله المتعدد والمتنوع بغية الوصول إلى إطار منظم ، والهوية وإن كانت من الثوابت عند البعض إلا أن الثبات لا يعني جمود الهوية وانغلاقها على ذات صاحبها بل تعني الخروج من (أنا) إلى (نحن) ، كما أن تعدد الهويات مدعاة لانشطار المشاعر في ظل تعدد الانتماءات وتنامي الولاءات خصوصا عند عجزنا عن ترتيب الاهتمامات ، ولا ريب أن ( الإنسانية) أصدق هوية يحملها آدمي تحرر من كل المؤثرات التي تطمح للهيمنة على أفكاره وسلوكه ، ومنها تلك التي تتطاول باسم الدين أو باسم القيم والعادات والأعراف البالية على خصوصية الفرد وتنتهكها. والملاحظ في مراحل الضعف والتخلف غياب الهوية الجمعية ، لتطفو على السطح نماذج لهويات مشوهة ومريضة تظن أن انفعالها خير وسيلة للتعبير عن صدق انتماءها للدين أو الوطن أو المجتمع ما يشعرنا بوجع طغيان الفردانية على صوت الجمع ، وصولان الاجتهادات الخاطئة والعاطفية وجولانها على رحى العقل والتدبر والفكر ، ليتضاءل مع هذه المظاهر مفهوم الشراكة الوطنية بدعوى أن منطقة هي أربى من أخرى ، أو تحت ذريعة أن توجها أنقى وأصدق من توجه آخر ، و لذلك مبرراته منها كون التخلف يخل بقائمة الأولويات ، ويعطّل عجلة التنمية الإنسانية ، ويمايز بين المواطنين من فوق مائدة منطلقات مادية وفئوية وعصبية مولدة للضغائن والانبتات عن الكيان الموحد ، ويثمر الصخب الحاد والتناشب الصاخب بين التيارات والتوجهات والعصبيات والمذاهب وكلها من إمارات عجزنا عن تحديد الرؤية المشتركة الصالحة والتوافق عليها من كل الأطياف لتكون مشروع المستقبل الوحدوي بتعدديته ، وربما اجتهد البعض في تحديد الرؤى إلا أن مستوى القبول بها وتفعيلها لا يرقى إلا درجة اعتمادها والتسليم بها ونحن في تساؤل دائم عن مصير أفكارنا التي سلمناها باختيارنا إضبارات مركز الحوار الوطني. وما لفتني منذ مطلع رمضان مشهد تآلفنا واتفاقنا على تحديد بداية شهر والاصطفاف فيه ووراءه بإزاء منظومة أداء الشعائر والشروع في صيامه بشكل جمعي والتهافت على القيام والتراويح وأنواع التعبدات المحمودة بتكامل وتفاعل مبهج وخليق ، فاستعدت ملامح وصور الإسلام مطلع التشريع وكيف أن العبادات كانت تؤدى في الخفاء وبشكل فردي ومنعزل ، حتى بدأ موسم الهجرة إلى المدينة فظهرت أبرز تجليات المجتمع المدني المجدد برؤية تفعيل المشترك ، ما ولت معه ما يمكن تسميتها حقبة الأنا في ظل انتشار حس المجموع ولم تعد العبادات فعلا يستحى منه ويخشى من عواقبه بل تبدل الحال فغدا الانعزالي مذموما والمنفرد محل شبهة. ويلفت المتأمل لوثيقة المدينة التي أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم أن المجتمع الإسلامي الحقيقي مجتمع دين ودنيا ، وجماعة المسلمين الأولى جماعة توليف وتأليف لا أحزاب تفريق وفتنة ، فالكل في زمن الهجرة يتمنى أن يسكن المدينةالمنورة ، طيبة الطيبة كون النظام والتشريع يكفل حراكا شعبيا تنمويا لليهودي والنصراني والمسلم والبدوي والحضري ما يستشعر معه كل حامل هوية من هذه الهويات أنه عضو فاعل في نشاط الجماعة بصرف النظر عن معتقده وتوجهاته ، ولذا وافق النبي عليه السلام على أن يظل مزارعو خيبر يعملون في أراضيهم وينتجون ويعطون بيت المال نصف الثمار أو الغلة مقابل توفير أمنهم وحماية حقوقهم ما رسم أجلى حقائق العدل والإنصاف والحرية والمساواة في ظل هيمنة المعنى المشترك للمجتمع التصالحي الذي لا فضل فيه لأحد على أحد إلا بما ينتج ويقدم من عمل صالح للدين والدنيا ، بل حتى من ولي أمور المسلمين لم يكن يستظهر مسؤوليته في صورة تميزه عن سواه ، عدا أنه يرى نفسه أكثرهم عبئا وأحوجهم للمحاسبة والمساءلة ، ولم يستنكف محمد بن عبدالله أن يقف لجنازة اليهودي حين مرّت به ليعلمنا قيمة احترام النفس البشرية ، قالوا : إنها جنازة يهودي يا رسول الله ! فردّ عليهم : أليست نفساً ؟ هذه العودة للتاريخ والسيرة محاولة لتأصيل معنى وقيمة وتأثير الحراك الجمعي ، وإباحة استغلاله في أمور الدنيا شأن أمور الدين ، فالتفعيل المؤسسي لقدرات المجتمع ومقدراته يحجم انفلات الهوية ويحول دون مرضها ، ويحيل الأفراد من منفعلين فقط إلى فاعلين ، ويواءم بين متطلبات الروح وحاجات الجسد ، خصوصاً أن القدرات الشابة والأجيال الجديدة لم تعد تعنيها المركزية ولا تلتفت لما يسمى مكونات التحكم أو السيطرة في ظل انفتاح وسائل الاتصال والتواصل ما يعني ضرورة الاحتواء المتسارع للمواهب والقوى وسكبها في قالب وطني نبني به مجتمعا مستغنياً لا غنياً فقط. و كل قراءة لما يحيط بنا اليوم تقدم نموذجاً ساخنا لحالات الضيق ذرعا بكل من وما يمارس أو يطبق منهج الإهمال واللامبالاة على جيل كسر مفهوم النخبة وانتقل بوعي إلى ما يسمى ( مجتمع تداولي) كما يصف المفكر علي حرب ، فالشباب العربي اليوم يحقق فاعليته بالمشاركة من خلال الشبكات الآنية والمعلومات الرقمية أمام عجز وشلل بيروقراطي جامد يحاول جهده أن يتمادى في صب الرتابة على رؤوس العباد ، لتصفو له مشارب التسلط والفساد الإداري والمالي، والعبث بمقدرات الشعوب والأجيال متذرعاً بالخوف على الهوية القاصرة والمريضة ليظل الشعب المغلوب على أمره في بعض البلدان أسير الموجات الارتدادية الموترة والمتوترة والمحيلة للمزيد من التقويض والتخريب والتعطيل لكل مشاريع الإصلاح والبناء والتحرك الوطني الخلاق مبررين انفعالاتنا بالخوف على الموروث ما يؤهل الآخر للحكم علينا ووصفنا بالعاجزين كوننا لا نجيد إصلاحا ولا نحسن بناءً كون مستقبلنا ماضينا