عرض علي أحد الأشخاص عبر اتصاله الهاتفي بي (رافضاً الإفصاح عن اسمه وصفته) أن أتولى كمحام مهمة الدفاع عن المتهم الوحيد في قضية اختطاف القاصرات بمدينة جدة ، وعندما أجبته سريعاً بالرفض الشديد بادر إلى تقديم عروضه المادية المغرية ، ولكنني تمسكت برفضي التام ، ليقول لي بأسلوب لا يخلو من التهكم: أليس من أبسط حقوق أي متهم مهما كانت الجريمة المنسوبة إليه أن يوكل محاميا للدفاع عنه أمام المحكمة ؟! ثم إنك يا أخي دائماً ما تتحفنا في مقالاتك بضرورة مراعاة حقوق المتهم إلى أن تثبت براءته أو إدانته !! والآن ترفض مجرد الاستماع لي حتى أكمل لك وجهة نظري ؟! لم أتقبل فكرة الترافع عن هذا المتهم تحديداً ، ليس لأن موقفه من القضية ضعيف نظراً للقرائن والأدلة التي تحاصره من كل جهة ، بداية بصور كاميرات المراقبة بالأسواق ، ومروراً بأقوال الضحايا وتعرفهن عليه وانتهاء بتطابق تحاليل D.N.A ، لكنني لم ولن أقبل الترافع عن هذا المتهم لسبب بسيط ، وهو أنني قبل أن أكون محاميا يبحث عن قضية كبيرة تضمن له على الأقل مقدم أتعاب مغريا مقابل المجهود الكبير الذي يبذله فأنا أب لأطفال في عمر الضحايا ولا أرضى أبداً أن يصيبهم أي مكروه ، وقد اغرورقت عيناي بالدموع في كل مرة أقرأ فيها عن هذه الجرائم البشعة التي هزت أحداثها أرجاء الوطن وقلوب الشعب أجمع! كيف أترافع عن هذا المتهم ، وشرايين قلبي كادت تتصلب عندما روى لي أحدهم تفاصيل إحدى قصص ضحايا وحش جدة (وتعتبر أقلها فداحة) تلك التي بدأت أحداثها بنجاحه في إقناع طفلة بإحدى الأسواق بأن لديه ألعابا أفضل تنتظرها ، لينتهي رصد كاميرات المراقبة بخروجه من السوق والطفلة تتبعه بكل براءة !! لتستنفر بعدها الأجهزة الأمنية ، حتى وردها بلاغ بأن هناك طفلة عثر عليها بأحد الأحياء الجنوبية تتطابق مواصفاتها مع الضحية ، وهنا (والعهدة على الراوي) ما إن انتقل الجميع إلى الموقع وشاهد والد الطفلة ابنته حتى انهارت قواه وأخذ يبكي بحرقة ويحتضن الضباط ويقبلهم ويشكرهم بحرارة ، فيما أخذت الأم طفلتها بعيداً لتتفحصها قبل أن تختلط دموعها مع ابتسامتها وهي تقول: أبشركم ابنتي سليمة (والحمد لله) ! صحيح أنه يمكن لأي محام الترافع عن هذا المتهم ، فقد نص نظام المحاماة على أن للمحامي الدفاع عن المتهم في الجرائم الكبيرة بشرط حضوره ، إلا أن النظام نفسه نص صراحة بأن على المحامي ألا يتوكل عن غيره في دعوى أو نفيها وهو يعلم أن صاحبها ظالم ومبطل ، ولا أن يستمر فيها إذا ظهر له ذلك أثناء التقاضي !! لهذا فإنني أربأ بنفسي عن الشبهات ، وأرفض أن أكون ذلك المحامي الذي يشير إليه الناس بحقد وكراهية على أنه يهتم بالبحث عن الظهور والمال ولا يعير الحق أي اهتمام ، أرفض أن أكون ذلك المحامي الذي يدوس بمهنته الشريفة على مشاعر وآلام أهالي الضحايا المغلوب على أمرهم ، باختصار شديد: أرفض رفضاً قاطعاً أن أستبدل اسمي الذي أعتز به كثيراً باسم (محامي وحش جدة) !!