لو فكَّر كلُّ حاكم مسلم في مآله ونهايته ، وأنه مهما طالت به الحياة سيلاقي ربّه ، ويجد أمامه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وأنه سيجد كلّ ما عمل حاضراً عند ربه ، لكان حرصه على إرضاء الله عزَّ وجلَّ في نفسه ودولته ورعيّته هو الطريقة المُثْلَى التي ترفع مقامه في الدنيا والآخرة ، ولوجد نفسه في سعادة عظيمة ، بما يسوق الله له ولرعيّته من الخير والعز والتمكين. إنها القاعدة الشرعية المعروفة التي وضع أسسها أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام ، فكانت قاعدة ذهبيّة للاستقرار والاطمئنان والنصر والتأييد . (من التمس رضا الله سبحانه وتعالى بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس). معادلة ميسورة للفهم والتطبيق ، لا تعقيد فيها ولا تزويق ، وهي عامة للناس جميعاً ، صغاراً وكباراً ، رجالاً ونساء ، تتحقّق نتائجها لكلِّ مَنْ يطبقها ، وتبرز آثارها في كل أسرة أو مجتمع أو دولة تحرص على تحويل هذه المعادلة العظيمة إلى واقع معاش . وتكون هذه القاعدة الشرعية الإسلامية أكثر تأكيداً في حق ولاة الأمر ، الذين يحملون عبء إدارة شؤون رعاياهم ، ورعاية حقوق الناس ، وتحقيق العدل والإنصاف في دولهم التي يقودونها ، وهو عبء ثقيل جداً ، مَنْ تراخى منهم عن حمله بأمانة وإخلاص وحرص على إرضاء الله عزَّ وجلَّ قبل غيره من نفس أو أهل أو بطانة أو أصدقاء أو أعداء ، فسوف تكون عاقبتهم وخيمة في الدنيا ، وأشدّ وَخامة في الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون . إنّ مِنْ أشقى الناس قاطبة مَنْ وليَ أمور الناس فلم يقم بولايته خير قيام ، ولم يحكم بالعدل والإنصاف ، لأنّ ولاة أمور البشر يحملون - إذا فرّطوا - أوزارهم وأوزار غيرهم ، ويواجهون إذا ظلموا ملايين المظلومين من رعاياهم الذين سيقفون أمام الله عزَّ وجلَّ مطالبين بما ضاع من حقوقهم في الدنيا . وهذه - كما نرى - مسألة مصيرية في غاية الخطورة ، وهي التي جعلت ولاة أمور الناس من الأنبياء والرُّسل والحكّام المصلحين العادلين على مرِّ التاريخ يواصلون سهر ليلهم بجهد نهارهم حرصاً على رعاية الحقوق ، ورفع المظالم ، وعدم الإضرار بأحدٍ من الناس الذين تحت ولايتهم مهما كان صغيراً . ولدينا نحن - المسلمين - الأنموذج الأمثل متمثّلاً في سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي كان دقيقاً جداً فيما يتعلّق بحقوق الناس ، إلى الدرجة التي جعلته يكشف رداءه عن بطنه لينتصف منه الصحابي أمام الناس لمّا أصرّ على الاقتصاص ، وما كان - رضي الله عنه - يريد الاقتصاص ، وإنما كان يريد أن يلامسَ جلده ، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان له ما أراد . كم تتفطَّر قلوبنا ونحن نرى مَنْ يخوض في دماء الأبرياء غارقاً في مستنقع ظلمه وطغيانه واستهانته بدماء البشر ، كما هو الحال في ليبيا التي تَعْرض على العالم لوحة دموية قاتمة صباح مساء ، بما يرتكب طاغيتها من جُرْمٍ لا نكاد نجد له نظيراً في ماضي البشرية وحاضرها ، وهو ما يحدث في غير ليبيا من البلاد التي ابتليت بمن لا يخافون الله سبحانه وتعالى ولا يطلبون رضاه ، ولا يبالون بما يريقون من الدماء . إنّ (إرضاء الله وحده) يحقق العدل والإنصاف في كلِّ شيء ، في الحرب والسِّلم ، والقوّة والضعف ، والمَنْشط والمكره ، وينشر في نفوس الناس من الراحة والهدوء ما يجعلهم عَوْناً لحكَّامهم ، ويداً واحدة في مواجهة كلِّ من يريد الإساءة إليهم وإلى دولتهم . (إرضاء الله أولاً) شعار عظيم يجدر بالمسلمين أن يكونوا أحرص الناس عليه وأول الدُّعاة إليه . إشارة مهما غفا الناس إعراضاً فلن يجدوا=من دون ربِّهم الرحمن مُلْتَحَدا