تفرض الأحداث المتلاحقة أخيرًا في تونس ومصر سؤال المتغير الثقافي الذي صنع تلك الأحداث ، وسبَّبَ لها. وجُلُّ الأصابع إن لم يكن كلّها يشير إلى وسائل الاتصال والإعلام الجديدة التي أنتجتها التكنولوجيا الرقمية والبث الفضائي وثورة المعلومات. فمن دون أن نأخذ في الاعتبار هذا المتغير لا يمكن أن نلحظ اختلافًا في الواقع العربي يميز ما أنتجته الأحداث عمّا لم تنتجه في امتداد التاريخ الطويل قبلها الذي كان في بعض حقبه أسوأ استبدادًا وفقرًا وبطالةً وإهانةً وسجنًا وتعذيبًا وتكميمًا للأفواه ، وهو التاريخ الذي يتشاركه استبداد السلطة في مختلف المجتمعات منذ القديم ، بحيث يمكن أن نقول: إن القبضة الاستبدادية على السلطة هي هي تلك التي تكرس مفهوم القيد أكثر من مفهوم الحرية ، والواقع أكثر من المستقبل ، وتختصر العقول والطاقات والرغبات في شخص الزعيم الذي يغدو بفرديته كلاً لا يتجزأ واستمرارًا لا ينقضي. وقد تبادل هذا الواقع الإنتاج مع وسائل استحواذ وهيمنة ثقافية ، مطبوعة بطابع التسلّط والإقصاء ، تمارس دومًا فعل التقديس للزعيم ، وتعمل على إدماج الأفراد بطرق مباشرة وغير مباشرة في الواقع المرسوم بما يريد. وهو واقع لا يتصل بما يعيشه الناس ، ولا بما يرغبون أو يعانون ، وخير مثال يمكن أن نضربه القنوات الإعلامية الرسمية في معمعة الأحداث المشار إليها أعلاه ، فقد كانت تثير لدى من اطلع عليها ، مزيدًا من إحساس القهر والتسلّط ممزوجًا هذه المرة بفجيعة المفارقة وسخرية الغباء ، والشعور بالضآلة والقِدَم ، والتخلف عن اللحظة الحية والمنفتحة باتجاه زمن آخر لا صلة له بها. وما يزال عالقًا في ذهني -مثلاً- بث التلفزيون التونسي المتكرر لمظاهرة محدودة غداة الهروب ، تهتف للزعيم بالروح بالدم ، ولا تخلو وجوه أكثرهم وملابسهم من سيماء النعيم المريب. وهو الموقف نفسه الذي لم يبارحني منذ رأيت التلفزيون المصري عشية إحدى الاحتشادات المليونية -في الأسبوعين الأولين من الاحتجاجات- يبث مشاهد هادئة على كورنيش النيل ، لا تلتفت بتاتًا إلى الغضب المشتعل في ميدان التحرير! وهذا يقودنا إلى إدراك ما صنعته الميديا الجديدة التي ألغت تمامًا القنوات الرسمية والإعلام الحكومي بكافة أشكاله ، من هذه الوجهة المهنية والموضوعية -الوجهة التي أكْسَبَتْ متلقيها مناعة ضد التدجين والاختزال والكذب والتخويف ووجهة النظر الأحادية ، وفاعلية بحث وتحقيق ونقد وتمييز وموازنة واختيار. ولم يعد ، في ضوء ذلك ، متلقيًا فقط بل أصبح مشاركًا ، سواء بتعليقه وإبداء وجهة نظره على ما يحدث أو ما يقال ، أم باختياره ما يريد أن يقرأ أو يشاهد أو يسمع ، أم بمشاركته في الإعلام وصناعة المعلومات والأخبار والمرئيات والصوتيات. هكذا انتهى عصر انفراد الإعلام بجمهوره ، وتوحده به ، ومضى زمن المشاهدة غصبًا والقراءة غصبًا والاستماع غصبًا أمام تعدد البدائل واتساع مساحة الاختيار التي توافرت من خلال الشبكة العنكبوتية والفضائيات وشبكة الهواتف المحمولة. وأتصور أن الحرية هي أول قيمة حاكمة في هذا الفضاء ، لأنَّه لا يتكشف عن أهم من فسحة الاختيار ولا عن أبرز من خاصية التعدد والاختلاف. والصلة بين ما يتيحه الاختيار وما يصفه التعدد والاختلاف وبين الحرية هي صلة الظرف بمظروفه والوعاء بمحتواه ، بل هي صلة الاسم بمسماه. إن هذا الجهاز الصغير للتحكم والاختيار من بعيد (ريموت كونترول) لم يُعدُّ يشير إلى فعل التشغيل والإغلاق ، بل جاوزهما إلى الإشارة إلى العدد وهو إمكانية تبديل القنوات ، واستعراض اختلافها ، وتدوين المفضلة منها على سواها ، والحذف ، أو البحث عن قنوات أخرى ... إلخ. ومعنى ذلك أنه دلالة حرية بقدر ما هو دلالة اختيار ، ودلالة على الذات والرغبة أكثر منه دلالة على الخارج أو على الاضطرار والقهر. وهنا دلالة فعل لا انفعال فقط ، فما دمتُ اختار ما أشاهد فأنا أسهم في صنعه ، وما دمت أفاضل بين بدائل فأنا أتحكم في وعيي وأحاكم طرق التأثير عليه وأميِّز بينها ، ونتيجة ذلك هي ممارسة الوعي التي تشير إلى تجلٍ للحرية. والأمر لا يختلف أمام العالم الافتراضي الذي تصنعه الشبكة العنكبوتية ، فالحرية قيمة حاكمة هنا كما هناك ، وهنا تزداد مساحة الفعل كما تزداد مساحة الاختيار. وهي مساحة تقوم على التفاعل والتواصل والشفافية ، فالمتلقي هنا لا يقف عند حدود الاستقبال بل يستحيل إلى دور المرسِل مثلما يقوم بدور المتلقي ، وهذا هو معنى التفاعل الذي أحال الشبكة إلى مدار للتشارك. وإذا كان التشارك فعلاً وعيًا ومعرفةً وتعاطفًا ومواقف فإنه فعل تواصل ، حيث القضاء على العزلة وإلغاء مسافات البعد واجتثاث حدود الانفصال ، بالشكل الذي أصبحت دلالة القرية الكونية مؤداه ونتيجته. ومن غير شك فإن الاتصال قيمة حيوية للوجود الإِنساني ، ومن دون التواصل والاتصال بين بني البشر لا حاجة للغة ، ومن المتعذر تصور الذات والمجتمع والعالم ، وتنامي المعرفة ، وتطور القيم ، وتلاقي المصالح ، وتلاقح الثقافات ، ورواج التجارة ... إلخ. وهذا هو ما يصلنا بالشفافية التي تحكم عالم الشبكة العنكبوتية ، مثلما تحكم عالم الميديا الفضائية ، فالفضح والكشف والتعرية والوضوح والكلام والحقيقة وويكيلكس هو المؤدى الذي يستبدله العالم الافتراضي للشبكة وتعدد قنوات البث الفضائي وحضورها المباشر ، بالتعتيم والستر والرقابة والصمت والتعمية والحجب واجتزاء الحقيقة وتغييبها. وقد يكون المرء وهو يستخدم الشبكة العنكبوتية في موقف الرفض للحرية والتحفظ عليها ، ولكنه بالضرورة يمارسها حتى وهو يختار الحرب عليها ، ويعيشها وهو يدعو إلى قتلها ، وليس لأحد أن يقصيه أو يمارس الوصاية عليه. ولهذا أصبح يقوم في العالم الافتراضي للشبكة مؤسسات مجتمع مدني ، فالفيسبوك وتويتر ويوتيوب والمجموعات البريدية والمنتديات والمدونات وغرف التشات والبالتوك ... وغيرها أمثلة لمواقع حافلة بالتجمعات والحشد والتعبئة ، وبناء رأي عام ، وتحليل المواقف ، والتعبير عنها ، وجمع المعلومات ، وتبادل الرأي ، والاختلاف ، وتشارك الخبرات. وهي مؤسسات عابرة للحدود من خلال تواصلها مع المجتمع العالمي الإعلامي والمدني ، وتكوين صداقات ، ولها في الوقت نفسه روح الشباب وصفته ، أعني تلك الروح الممتلئة بالأمل والمشتهية للحياة والمهمومة بالمستقبل والمتفتقة بالفتوة والتحدي ، كما أنها ممارسة تلقائية وعفوية ناتجة عن ظرف التجمع الذي تتيحه تلك المواقع ، ولا تنفصل عن عالم الفضائيات الذي يتضافر معها في توليد وعي المظلومية والتوق إلى الحرية وحقوق الإِنسان والبحث عن العدالة. لكن أحداث تونس ومصر برهنت على أن هذا العالم الافتراضي لم يبق افتراضيًا ، وأنه يخرج من الفيسبوك وتويتر ومن الهواتف المحمولة وآي باد وآي فون ... إلى الواقع في شكل احتجاجات متكاثرة تعجز الأنظمة عن قمعها أو احتوائها وإعادتها من حيث أتت. وقد رأينا كيف بادرت مصر إلى قطع الشبكة العنكبوتية وإلى إيقاف شبكة الهاتف المحمول ، في محاولة للَجْم أصوات الاحتجاج. وقرأنا في الأخبار عن الخوف الذي انتقل إلى السلطات الصينية ، فحجبت عن مواطنيها المدونات التي تحكي أحداث مصر وصورها على شبكات التواصل الاجتماعي ونتائج البحث عن كلمة مصر ، وأن سوريا قد حجبت موقع الفيسبوك ، وشددت الرقابة على الشبكة العنكبوتية. وبالقطع هي ممارسة مفلسة ، وتشبه تمامًا محاولة القبض على الماء ، أو تقييد الشمس عن الحركة ، فعالم التواصل الافتراضي هذا ليس محتوى تخاف من بعضه وتطمئن إلى بعضه ، وتمارس عليه التسلّط والتحكم ، بل هو الوعاء نفسه أو الشكل أو الظرف أو العلاقة أو البنية التي تنشئ افتراضيًا ديموقراطية ومجتمعًا مدنيًا ، وتأتي على التسلّط من أساسه ، مستبدلة بالتوليتاريا والمركزية والأحادية ، تعددية مدنية حرة. إن سؤال المتغير الثقافي الذي صنعته الميديا الجديدة ، هو سؤال الوعي المتخلق في ثناياها خارج نطاق الإيديولوجيا والنظرية ، وهو وعي لم يكن يعتقد أحد أنه بهذا القدر من الفاعلية والتأثير حتى -ربما- المتعاطين له. ولذلك فإن أحداثه المادية التي تتلاحق تثير أسئلة عديدة بشأن استمرار قطاره إلى محطات أخرى. لكن الأسئلة المؤرقة عربيًا ما تزال ترشح بالخوف من أن ينحرف إلى أكثر من طريق ينذر بالبؤس والفزع ، أسوأها الفوضى والتمزق والتحارب الأهلي ، خصوصًا في مجتمعات لا تملك مناعة منها ، لأنَّها لم توطِّن الحرية والمعاني المدنية وسيادة القانون ، وفوَّتَ الاستبدادُ بالسلطة فيها الفرص السانحة لبناء وعي مواطنيها من منظور الامتلاك للوطن والتشارك فيه والمسؤولية عنه. أما أهم دلالة لهذه الأحداث فتبرهن على أننا لا يمكن أن نحيِّد التقنيات ولا يمكن أن نعيش في ثورة الاتصال بعقول معتمة ومتخندقة ضد الحرية.