الصورة في مصر مازالت ضبابية ، لكن الرؤية في تونس بدأت تتضح ، والمشكلة ليست هنا، المشكلة في أن البعض لم يدرك حتى الآن أن مشكلة العالم الثالث كله والعالم العربي بصفة خاصة هي مشكلة واحدة حتى وإن اختلفت التفاصيل الصغيرة بين بلد وآخر ، مازال هناك من يردد (نحن مش تونس ولا مصر) ، وهذه المقولة لا يرددها إلا من لا يريدون خيرا لأوطانهم سواء كانوا يرددونها عن جهل وهذه مصيبة ، أو عن قصد وهنا المصيبة أعظم. الذين يرددون هذه المقولة يريدون أن تخوض بلدانهم التجربة ذاتها التي خاضتها تونس وتخوضها الآن مصر ، إنهم فعلا يجهلون أو يتجاهلون الحقائق التي تعلن عن نفسها بوضوح صارخ. أمس كتبت عن الوضع في اليمن وأشدت بمبادرة الرئيس اليمني الإصلاحية ، وقلت إن الذين يصفونه بأنه خائف يمدحونه من حيث يريدون الانتقاص منه ، فهو يواجه شعبه ولا يواجه عدوا ، وعلى إثر مقالي تلقيت رسائل واتصالات عتب ولوم ، وكلها تصب في نقطة واحدة هي أن التجارب مختلفة ولا يمكن تعميم تجربة زيد على عمرو والبقية ، ومع أنني أتفق تماما مع موضوع اختلاف التجارب هذه إلا أنني متيقن تماما من وجود قواسم مشتركة تتفق فيها جميع التجارب وتنطلق منها ، ومن العبث أو الجهل إغماض العين عن هذه القواسم المشتركة التي تنتظم الإنسانية كلها وليس عرقا أو جنسا دون آخر وليس بلدا دون آخر. لقد كانت ثورة تونس محفزا واضحا وباعثا جوهريا لثورة مصر ، وثورة مصر بما وصلت إليه حتى الآن ستكون محفزا وباعثا مهما لغيرها من الثورات الشعبية في دول أخرى ، ما لم تبادر تلك الدول إلى اتخاذ التدابير والشروع الفوري في معالجة الأسباب التي أفضت إلى قيام الثورتين ، هذه حقيقة واضحة ويجب أن يتم فهمها واستيعابها بوضوح. مطالب الشعب التي فهمها بن علي في اللحظات التي سبقت فراره بعد ثلاث وعشرين سنة من الجهل والتجاهل ، والتي أُجبر الرئيس المصري على الإقرار بها في الأيام الأخيرة بعد رفضها ثلاثين سنة ، هذه المطالب لها ما يناظرها ويشابهها في مختلف الدول العربية ودول العالم الثالث كله ، ومن العقل والحكمة أن تبادر أنظمة هذه البلدان إلى الاستجابة لتلك المطالب قبل أن تصبح في الموقف الصعب الذي أفضى إلى هروب بن علي، أو الموقف المروّع جدا لمبارك. (الوقاية خير من العلاج) والذين يروجون للخصوصية ومقولة (مش مصر ولا تونس) عليهم أن يتأملوا أن العدل والحرية والكرامة قيم إنسانية عامة يشترك فيها البشر كلهم ، ومقاومة الظلم ومحاربة الفساد والحقد على الاستبداد قواسم مشتركة قامت من أجل اجتثاثها كل الثورات الشعبية قديما وحديثا وإلى أن يشاء الله. الإصلاح الشامل الواضح المقنع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا...إلخ هو وصفة الإنقاذ السحرية الكفيلة بعدم تكرار تجربة تونس أو مصر في هذا البلد أو ذاك ، أما الذين يرددون (مش تونس ولا مصر) فهؤلاء باختصار، لا يعرفون أو يتجاهلون حجم الكارثة التي يغطونها بطمأنينة واهمة خادعة ستفضي إلى عواقب وخيمة، إنهم لا يحبون أوطانهم. قينان الغامدي