وعدت في مقالي السابق المعنون ب»الشعر وأسماء الأماكن» بأن أسطر لكم مقالة أبين فيها كيف يجلس الغيم على الجبال، بعد أن أوردت قول الشاعر العربي القديم «عمرو بن بارق الثمالي» واصفاً الغيم الماطر: أروى تهامةَ ثم أصبح جالساً=بشعوف بين الشَّثِّ والطُبَّاق وفيه إشارة إلى جلوس الغيم على شعوف الجبال، أي رؤوسها وقممها بعد أن سقى سهول وأودية تهامة بالمطر، وهي صورة حقيقية نشأنا في منطقة الباحة على رؤيتها، فالسحاب ينشأ من جهة تهامة وهي الجهة الغربية حيث البحر الأحمر، وحيث يتكون السحاب بفعل تبخر مياه البحر كما هو معلوم، وكنا نراقب مواكب الغيوم وهي صاعدة من جهة تهامة، ومنها ما يرتفع إلى ما هو أعلى من شعوف الجبال متهيئاً بإرادة الله سبحانه وتعالى للإمطار، ومنها ما يكون أخف وزناً فينزل على مستوى الجبال معانقاً لصخورها وأشجارها ومصافحاً للناس في أوديتهم، وأزقة قراهم، وأفنية بيوتهم وهو ما يعرف ب»الضباب». أما جلوس الغيوم على قمم الجبال فهو أمر مشهود يراه الناس على امتداد جبال السروات، وهو جلوس محمود محبوب لأنه يعرض لوحة بارعة الجمال يصعب على القلم أو اللسان وصفها، فالشاعر الثمالي حينما أشار في بيته السابق إلى جلوس الغيوم على شعوف الجبال بين «الشث والطباق»، صادق الصدق كله، دقيق الدقة كلها، فهي ليست صورة من صنع الخيال وإنما هي صورة واقعية كأنما هي خيال لما فيها من الجمال والإثارة. ولقد عبرت عن ذلك في قصيدتي التي تحمل عنوان «مجالس الأمطار» المنشورة في ديواني «بائعة الريحان» المكتوبة عام 1400ه، وقد صورها التلفاز السعودي من خلال محطته في الباحة، وأذاعها أكثر من مرة، وكنت قد جلست على صخرة كبيرة في وادي قرية «الغمدة» وأنا ألقيها، وأمامي مواكب الغيوم جالسة على شفا الجبل المطل على تهامة، وقلت في مقدمة القصيدة آنذاك «في منطقة الباحة يعقد الغيم كل يوم مجالس الأمطار» وفيها أقول: حدثيني عن رحلة الأقمار=وعن الليل يحتفي بالنهار حدثيني عن الجبال، ذُراها=تمنح الغيم نظرة استكبار حدثيني عن التلال، عليها=طيلسان من أجمل الأزهار ها هنا يا فؤاد مسقط رأسي=أتراني نسيت أهلي وداري هذه الباحة التي علمتني=كيف أهدي لحني إلى قيثاري كيف ابني على روابي حنيني=قمماً من روائع الأشعار أسمعتني صوت الندى وهو يفضي=بخفايا الندا إلى الأشجار في ربى غامدٍ وفي زهرانٍ=يعرف الطل قيمة الأسحار يعرف الغيم كيف يعقد فيها=كل يومٍ مجالسَ الأمطار نعم.. والله - إن الغيوم لتعرف كيف تعقد مجالس الأمطار، وكأنها تناقش فيما بينها بلسان رعدها وبرقها كيف تتعامل مع الجبال والأودية والمزارع والأشجار والأزهار، وكأني بها - وهي تناقش ذلك - تنتظر إذن الله سبحانه وتعالى لها بالانطلاق إلى الموقع الذي شاء أن تمر فيه، وكم من مرة كنت أراقب فيها تلك الغيوم وهي جالسة فعلاً في مواقعها لا تكاد تتحرك، ونسمع منها صوت رعود مكبوتة كأنها صوت رجل أجش الصوت تتلجلج كلماته في صدره، وكنا نطلق على ذلك الصوت المكبوت في صدور الغيوم «المُحْنِم» لأن أهل المنطقة قد اصطلحوا على تسمية الأصوات التي لها ضجيج ب«الحَنَمة» فيقولون: حنمة السحاب، وحنمة السيارة وهكذا. أقول: كم من مرة كنت أراقب فيها الغيوم في حالتها الساكنة تلك، وفجأة تهب الرياح الشديدة محركة تلك الغيم أسهل حركة وأيسرها برغم ثقلها وتراكمها، فتنطلق بها إلى حيث أراد الله. إنها - أيها الأحبة - مجالس للغيوم بارعة الجمال، ترى فيها العين لوحة طبيعية استطاعت عدسات التصوير المتحرك - التلفازي - أن تتيح للناس أن يطلعوا عليها من خلال البرامج المصورة عن عجائب الطبيعة والكون، ولكن الرؤية المباشرة أكثر جمالاً وإمتاعاً. ولعلها فرصة مناسبة هنا أن أبارك لسمو الأمير مشاري بن سعود بن عبدالعزيز ثقة ولاة الأمر به وتعيينه أميراً للباحة خلفاً لأخيه سمو الأمير محمد بن سعود - وفقهما الله للخير - وأن أقول لسموه: أنت الآن في الموقع الذي سترى فيه رأي العين كيف تنعقد مجالس الغيوم على شعوف الجبال، وأنت - كما عرفتك - رجل ذوَّاق تحب الأدب الجميل، والشعر الأصيل، والطبيعة الخلابة، فاهنأ بذلك، ولتهنأ الباحة بما تنتظره من جهودك المباركة إن شاء الله. إشارة: أنا في هذه الروابي مقيم بفؤادي مهما يشط مزاري