نحن نعلم، ومن لا يعلم فليعلم أن لا هوية ولا مكانة لنا كأمة بدون الإسلام، ولكن ليس إسلاماً مبتدعاً فيه من الشطط ما فيه، ليس إسلاماً يفرق ولا يجمع، ليس إسلاماً تُجتزأ وتُختزل بعض تعاليمه وتُعزل وتستخدم للتغرير بشباب الأمة والقذف بهم إلى أتون حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ليس إسلاماً خالياً من مفهومه الصحيح المتمثل في السلم والسلام والأمن وإشاعة كل هذه المفاهيم، ليس إسلاماً يؤلب القلوب على أمتنا ويغذي الكراهية ويزيد أعداؤنا بدلاً من إنقاصهم، ليس إسلاماً يتتبع ويتصيد خطايا الناس وأخطائهم ويرصدها ليشهر بهم دون تنظيم ولا تقنين، ليس إسلاماً يشيع ثقافة الحكم على الإنسان من خلال المظهر، ليس إسلاماً يسلب حقوق المرأة أو يمنعها التي وهبها لها الإسلام الصحيح، ليس إسلاماً يشيع ثقافة الغلو والتطرف ويبتعد عن الوسطية والاعتدال، ليس إسلاماً يصدر آراء قاطعة جازمة فردية ودون مرجعية أساسية مما يقود إلى كوارث على الوطن والأمة، ليس إسلاماً يدعو ويشجع بقصد أو بغير قصد إلى زيادة الفرق وبالتالي التفرق حتى في المذهب الواحد، ليس إسلاماً منغلقاً يربي فكراً يعتقد أن الإسلام الصحيح هو ما يطبقون أو هو ما هو موجود في بقعتهم الجغرافية وأن الآخرين في عقيدتهم دخن. من الصدف الجميلة أن أمر خادم الحرمين الشريفين المتعلق بمرجعية الفتوى جاء في اليوم التالي بعد تلك الحلقة من حلقات بيني وبينك. بالتأكيد وبشكل قاطع لا لبس فيه أن الأمر ليس استجابة للحلقة. ولكن الأمر من ولي الأمر جاء بناء على رصد لفترة زمنية معينة ليست بالقصيرة من قبل المخلصين والمختصين وذوي الخبرة والدراية بما يدور بالمجتمع من حراك اجتماعي وثقافي، يتمخض عنه ولادة أفكار جيدة، ولكن أيضاً ولادة أفكار تهدد أمن الوطن وسمعة الوطن وتشغل المجتمع بقضايا لا مردود إيجابي لكثير منها. لا شك أن خادم الحرمين الشريفين اطلع على تلك التقارير بالإضافة إلى ما خبره ويخبره بشكل واسع في مجتمعه الذي عايشه ويعايشه ويعايش وعاش قضاياه على طول مسافة زمنية طويلة -أمد الله في عمره-. الفتاوى المسيَّسة وفتاوى ردة الأفعال والأحداث تعددت مصادرها وشخوصها. تلك الأنواع من الفتاوى هي ما طغى على سطح كل شيء على أسطح التلفزيون والإنترنت والهواتف النقالة، على أسطح الجرائد على أسطح ألسنتنا، على أسطح منازلنا، بل تسللت وتمكنت وعششت وفرخت داخلها وربت جيلاً كاملاً، والمخطط أن تربي أجيالاً. في اعتقادي ليس كل أستاذ جامعي مختص في الشريعة له قدرة على إصدار فتوى تتعلق بأمر عام قد يكون له انعكاسات سلبية على الأمة، ولكن من حقه أن يبدي آراءه في قضايا متنوعة عامة تهم الوطن وتهم الأمة. وليس كل قاض لديه تلك القدرة، ولكن لديه القدرة على القراءة والتركيز على القضايا الشخصية والتوجيه فيها، ولكن ليس في قضايا تؤثر على الوطن. الأمر الكريم بقصر الفتوى على هيئة كبار العلماء (ويستثنى من ذلك الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، بشرط أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول)، كما ورد في الأمر الكريم. كيف يُطبق وكيف يُنفذ؟ كيف يقلل من الفتاوى الشاردة والتائهة والضالة؟ كيف تعود ثقافة أن الأصل في الأشياء الإباحة وليس العكس؟ كيف يؤسس ويقعد لتنفيذه دون ارتجال ولا استعجال؟ كيف يقتنع الناس بأن هناك فرقاً بين الوعظ والإرشاد والفتوى؟ كيف يتم التفريق بين مهمة الداعية ومهمة المفتي؟ كيف يتم التفريق بين الرأي الصادر عن فقيه أو متفقه في الدين في قضية ما تهم المجتمع والأمة وبين الفتوى؟ كيف يتم تجنب تلك الحدود الهامشية أو الخطوط الوهمية بين هذه وتلك؟ كيف نخلق ثقافة مقاومة لا تتقبل ولا تقبل ولا تنصاع أو تتأثر بفتاوى شاذة؟ هل سيردع العقاب للمخالفين؟ وكيف سيقرر نوع العقاب؟ أعتقد أن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء هي المرتكز الأساسي لبدء التفعيل. هيئة كبار العلماء هم المنوطون بالفتوى ولكن أعدادهم لا تكفي. إنه ولكي يتم تفعيل هذا القرار بشكل إيجابي لابد من توفر ما يلي: أولاً: تعيين عدد أكبر بكثير من الكوادر البشرية والتي يجب انتقاؤها ممن تتوفر فيهم صفات معينة يقررها كبار العلماء على الأقل في الوقت الحاضر، لكي يساندوا كبار العلماء من خلال البحث والتقصي والدراسة في جوانب القضايا المختلفة. ثانياً: العمل منذ الآن على تهيئة كوادر لديها الاستعداد لدراسة اللغة العربية والشريعة الإسلامية وربطهما ببعض حتى لو اقتضى الأمر أن يكون برنامج البكالوريوس خمس سنوات وينتقى لها من أفضل خريجي الثانوية والذين لديهم ميول ورغبة واستعداد لدراسة هذا التخصص. ثالثاً: إدخال دراسة الفلسفة والمنطق في مناهج المتخصصين في الشريعة بحيث يعمل العقل مع النقل على أساس معرفي ومنطقي وفلسفي. رابعاً: تكثيف دراسة اللغة الإنجليزية في مناهج الشريعة وبعث المتميزين من خريجي كليات الشريعة في هذا البرنامج إلى جامعات متميزة للتعمق في البعث والحصول على الماجستير والدكتوراه. خامساً: ربط المحاكم الشرعية في كافة مناطق المملكة بالمجلس الأعلى للقضاء وبهيئة كبار العلماء، بحيث يحرر القاضي الفتوى ويبدي رأيه فيها ويرسلها إلكترونياً لهيئة كبار العلماء، التي يتم من خلال عضو هيئة كبار العلماء ومساعديه الرد خلال يوم أو يومين ويعتمدها القاضي وتسلم رسمياً لمن طلب الفتوى. خامساً: ربط الجهات ذات العلاقة بمجلس هيئة كبار العلماء للاطلاع والمتابعة ورصد المخالفات، لكي يتمكن هيئة كبار العلماء من اتخاذ القرار المناسب. سادساً: الربط إلكترونياً بالهيئات المشابهة في الدول العربية والإسلامية لتبادل الآراء في القضايا التي تهم الأمة، وقد يتم التوصل فيها إلى فتاوى عامة. ومن خلال هذا الربط الإلكتروني يمكن التعرف على القضايا والفتاوى التي تصدر في تلك البلدان ورصدها. سابعاً: تخصيص موقع إلكتروني رسمي خاص بمجلس هيئة كبار العلماء يحتوي على كل ما يخدم هيئة كبار العلماء ويضم شتات الفتاوى، وينبه إلى الفتاوى الخاطئة والتنبيه إلى خطرها. ثامناً: ضرورة تدريب الكوادر على استخدام الحاسب الآلي بكفاءة عالية. وهذا من شأنه تسريع الفتوى والقدرة على البرمجة والإصلاح للموقع والربط. تاسعاً: سن نظام أو كادر خاص بمن يعمل في هذا السلك مع وضع لائحة تنظيمية. لا شك أن أمر خادم الحرمين الشريفين خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح الذي سكون من شأنه تقوية الأمن الداخلي للوطن وحماية سمعة المملكة العربية السعودية كأرض للحرمين يترقب منها المسلمون أن تكون مصدراً لبساطة الإسلام وسماحته وعدالته ويسره وليس مصدراً لعكس ذلك. أسأل الله أن ينفع بما وجه وأمر به خادم الحرمين الشريفين، وأن يتمكن من اجتهد في فتوى أضرت بالوطن وسمعة الوطن من العودة إلى صف العمل الجماعي والبعد عن كل ما من شأنه شق صف الأمة.