لعل ما يجمع فتاوى التكفير والإرهاب في كفة واحدة كون الأول يمهد للثاني، وحسبما يرى المتخصصون في التشريع الجنائي مراحل نشوء الجريمة، فإن أولها يأتي تنظيرا من خلال وسائل عدة يليه التخطيط فالتنفيذ، الأمر الذي جعل جرائم التفجير في عالم اليوم تتنامى طرديا مع كثرة منظري الإرهاب والتدمير. وبعد نظر وتقص لأسباب الجرائم التي تحدث في العالم الإسلامي بشكل خاص يرى متخصصون أن المعاناة تكمن في منظري الإرهاب، الذي يعملون بصمت على شرعنة الجريمة من خلال فتاوى تبعث على الكره والعدائية، ما يمثل تمهيدا مدروسا لمخططات القتل وسفك الدماء تحت غطاء الدين، وهو ما أذاق عددا من الدول الإسلامية الويلات والنكبات ردحا من الزمن، «الدين والحياة» ناقش هذه الظاهرة التي وصفها أكاديميون ومهتمون بأنها المحرض الرئيسي على الإرهاب، الأمر الذي جعل العالم ينظر إلى الإسلام أنه متعطش إلى الدماء، حيث أكدوا أن فتاوى التكفير غير المنضبطة أصبحت تتداول بين أيدي سفهاء الأحلام والجماعات المارقة الذين اتخذوها ذريعة لتبرير أفعالهم وتفخيخ الأدمغة وتدمير المقدرات والإخلال بالأمن .. إلى التفاصيل: أزمة ثقافية وصف المفكر الإسلامي الدكتور محمد الأحمري صدور مثل هذه الفتاوى بأنه مؤشر ينبه إلى أزمة ثقافية واجتماعية كبيرة، مبينا «يبدو أن اللجوء إلى هذه الفتاوى محاولات مستميتة في مواجهة طوفان لم يجد في مواجهته القول المعتاد». وعن تأثير مثل هذه الفتاوى في علاقة المسلمين مع الغرب يوضح الدكتور الأحمري، أن هناك مبالغة في محاولة تزيين الذات أمام الغرب، فهو لا يبالي ولا يفكر بنا إلا أن نكون خاضعين تابعين. واستطرد الأحمري قائلا: أما تكفيرنا لبعض فقد يسرهم؛ لأن ذلك يسهم في تمزقنا، مبينا أن الأولى بنا أن نفكر في صورتنا عند أنفسنا وعلاقتنا ببعض بدلا من التفكير في علاقتنا مع الغرب. الحوار مع الغرب وقلل نائب رئيس مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني الدكتور عبد الله عمر نصيف من تأثير مثل هذه الفتاوى على سير الحوار بين أتباع الأديان؛ لأن الدين واضح والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى باللين، والغرب يدركون أن لدينا متشددين؛ كما أن لديهم أيضا. أمر خطير وأكد رئيس مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا الدكتور حسين حامد حسان أن التكفير أمر خطير ولا يكون إلا بإعلان الشخص الكفر البواح، بأن ينكر ركنا من أركان الإسلام أو يفعل شيئا من الأمور التي لا تصرف إلا لله، كأن يسجد لصنم أو وثن، معتقدا أن له صفات الألوهية والربوبية، ومالم يكن القول أو الفعل صريحا فليس لأحد أن يحكم بتكفير أي شخص. وبين أن المسألة مناطة بحكم القاضي الذي يسمع أقواله وينظر في الأدلة للتأكد من وقوع الكفر قولا أو عملا، مشددا أنه «ليس لأحد أن يرمي آخر بالكفر دون أن يكون لديه علم أو بينة قاطعة على الشخص»، أما الآراء الاجتهادية والخلافية فليس من أي شخص أن يصدر حكما بالكفر، مشيرا إلى أن آراء الناس في التكفير لاينبني عليها حكم مالم يتم ذلك قضائيا، محذرا من ترك التكفير بيد الأفراد وإناطتها بالمجامع الفقهية التي تصدر هذه الفتاوى بضوابطها الشرعية ويرى الدكتور حمد الماجد أننا أمام موقفين متناقضين، موضحا أن من يريد نفي التكفير مخطئ وكذا من ينزل التكفير على كل مسألة، واصفا الأمر بأنه يشكل خطورة كبرى. ونبه الماجد إلى ضرورة ترك التكفير لأهل العلم والاختصاص؛ لأنها مسألة في غاية التعقيد ولها ضوابط وشروط وليست كمسائل الوضوء أو المسح على الخفين ولا الحيض والنفساء، مبينا أن التعقيد هو السمة البارزة لمثل هذه المسائل؛ لأن هناك من يلتقطها من حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام ويتذرعون بها. وتمنى الماجد من العلماء وطلاب العلم ممن يتصدون لمثل هذه الفتاوى أن يكونوا في غاية الحذر منها حتى لا تستغل وتؤتي ثمارا عكسية، مؤكدا أنه ينبغي عدم إطلاق مثل هذه الفتاوى على عواهنها إلا من قبل جهات الاختصاص كهيئة كبار العلماء وغيرها. أغراض سياسية وهنا يؤكد رئيس اللجنة السياسية في مجلس الشورى الدكتور صدقة فاضل، أن هناك من يتاجر بالدين مستغلا إياه لتحقيق أغراض سياسية ومصالح شخصية وأمور ذاتية أو غير ذلك. وأوضح أن الدين الإسلامي في صورته الحقيقية الصافية معروف وهذا الذي ورد في ما تركه لنا السلف الصالح من نصوص وتفسيرات مجمع عليها من قبل علماء الدين الحقيقيين الذين كان هدفهم الأساسي تيسير الدين وتفسيره للبسطاء وعامة الناس. ولفت إلى أن الدين الإسلامي استغل في أغراض سياسية، كما أن هناك أديانا أخرى استغلت أيضا لذات الغرض، والتاريخ يشهد على ذلك، مشيرا إلى أن خطورة هؤلاء الناس تكمن في هذه النقطة، وسلبية مايروجونه من أفكار تصب في النهاية لخدمة مصالحهم الخاصة بواسطة فتاوى معينة. وألمح إلى أن غير المسلمين ينظرون إلى هذه المسائل على أنها الصورة الحقيقية للإسلام، وذلك حسبما يرد إليهم من معلومات؛ لأن كثيرا منهم لا يفرق بين الإسلام الصحيح وهذه الأهواء، وبالتالي فهم يستهزؤون بهذه الأفكار المنسوبة للدين ومن ثم يستهزؤون بالدين، وهذا ما يؤثر سلبا على نظرة الآخر للإسلام، وقد يتحول هذا الموقف إلى نظرة عدائية وسلبية ليست في صالح الإسلام والمسلمين. مسألة خطيرة ويؤيده في ماذهب إليه عضو مجلس الشورى الدكتور حاتم الشريف الذي أكد أن فتاوى التكفير مسألة خطيرة؛ لأن الشريعة جعلت للناطق بالشهادتين حرمة عظيمة، مستدلا بحديث أسامة رضي الله عنه حين غضب الرسول صلى الله عليه وسلم على قتله للذي نطق بالشهادتين كدليل دامغ على خطورة هذا الأمر. وبين الشريف أن «فتاوى التكفير إذا كانت منضبطة ومقيدة بقيود صحيحة لا تشتبه بأن يكفر البريء والمسلم فهي فتاوى صحيحة، موضحا أن التقديرات الموجودة في كتب أهل العلم في باب المرتد أو بيان مايكفر به المسلم لا يمكن شطبها، لكن لابد من تقريرها بشكل صحيح دون إنزال الحكم على الأشخاص تنزيلا خاطئا، ومراعاة السياق الزمني. وأكد عضو مجلس الشورى أنه «ينبغي على من يخرج الفتوى ويعلنها على وسائل الإعلام المختلفة والمواقع الإلكترونية أن يراعي الدقة والانضباط الكامل في الفتوى واحتمالات الفهم التي يمكن تتبادر إلى أذهان الناس وبالتالي يقيد العبارات بتقييدات واضحة حتى لا تنزل التنزيل الخاطئ على الواقع أو الأعيان أو الأشخاص الذين تنالهم هذه الفتوى، فإذا كانت بهذه الصورة فإنها مقبولة أما إذا كانت مليئة بالإطلاقات غير الصحيحة والعبارات الموهمة فلاشك إنها فتوى خاطئة، كما ينبغي الكف عن الفتاوى التي تكفر الأعيان أو تشبهها، كما أنه لابد من إناطة مثل الفتوى في هذه المسألة إلى القضاء الشرعي، لأنه يلزم من التكفير حكم شرعي وهو الاستتابة ثم القتل حدا. وعن مسؤولية ضبط فتاوى التكفير يقول الشريف «أهل العلم هم المسؤولون عن ضبط فتاوى التكفير، فنحن لا نستطيع حصرها ضمن جهة معينة، مقترحا أن يتم تكوين لجان شرعية تراعي مسألة الشذوذ في الفتوى، فتصدر بيانا في من يصدرون هذه الفتاوى لتنبيه الناس منهم، بعد نصيحتهم في البداية. خطير جدا الرئيس التنفيذي لملتقى علماء المسلمين وأستاذ العقيدة في جامعة أم القرى الدكتور سعد الشهراني نبه إلى خطورة التكفير، مبينا أنه جر على الأمة الويلات، وهو من الظواهر التي انتشرت في فترة من الصحوة، لكن انتشر بين فئة محدود، ولا تشكل الجزء الأكبر من تيار الصحوة الإسلامية. وبين أن المفترض أن يبرز دور العلماء والمجامع الفقهية في وسائل الإعلام وأن تكون للعلماء كلمتهم وللمجامع كلمتهم الفاصلة في تجريم التكفير؛ لأن تأخر العلماء وبعض الدعاة في تجريمه يسهم في إضلال العوام والمتعاطفين مع الفكر التكفيري، كما أن المجامع وهيئات كبار العلماء جرمت هذا الفكر من خلال فتاوى، لكنها لم تحظ بعناية تليق بها في وسائل الإعلام. وطالب الشهراني الإعلام بتبيين موقف العلماء من هذه المسائل بطريقة حوارية تفضح شبهات المكفرين؛ لأن مجرد صدور الفتوى لا يكفي مالم تتناقلها هذه الوسائل الإعلامية ويتم إشاعتها في المجتمع حتى يظهر خطر هذا الفكر، موضحا أن هذا الفكر كان يضر ببعض الشباب في فترة من الصحوة الذين انخدعوا به من جراء الشبهات والظروف العالمية التي مرت بها الأمة واستغلها هذا الفكر التكفيري في إغراء وإغواء بعض هؤلاء البسطاء الذين ليس لديهم علم شرعي يمنعهم من التكفير. واستدل الشهراني بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) وقال في الخوارج (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)؛ لأنه يريد الأمة أن تقف بحزم ضد هذا الفكر وألا تتساهل معه حتى تنتشر شبهاته وتقع الفتنة في الأمة وتراق الدماء وتكرر التجارب التي وقعت في الأمة الإسلامية من القتل والتدمير حتى قتل آلاف البشر. البعد عن التكفير طالب عضو هيئة التدريس في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية والمتخصص في التشريع الجنائي الدكتور محمد بن المدني بو ساق بالبعد تماما عن الإفتاء بالتكفير؛ لأنه يعتبره غالبا سببا للجرائم المختلفة. وفضل المدني عدم الإفتاء بالتكفير وأن يكون خاصا بصلاحيات القضاء فقط؛ لأنه أمر خطير جدا وقد يفضي إلى ارتكاب الناس جرائم لا حد لها بسبب ذلك. ورأى المتخصص في التشريع الجنائي عدم الخوض في ذلك حتى الأمور الذي اختلف العلماء فيها كتكفير تارك الصلاة كسلا وإهمالا ونحو ذلك، موجبا عدم الإفتاء بالتكفير في كل ما فيه خلاف وشبهة، كما طالب أن تمنع هذه الفتاوى؛ لأنها تحرض كثيرا من المتسرعين والمتشنجين والمتطرفين على الجريمة، محذرا من التكفير حتى في الأمور الواضحة وتركها للقضاء. وأوضح المدني أن فتاوى التكفير سبب في حدوث الأعمال الإرهابية؛ لأن هناك من يتلقفون هذه الفتاوى ويذهبون بها بعيدا لتحقيق مآربهم. المنظرون والمتهمون ونفى المنسق العلمي للجان المناصحة في وزارة الداخلية الدكتور سعيد الوادعي، أن تكون برامج المناصحة قصرت في تعقب منظري الإرهاب والفكر التكفيري مبينا «نحن في المناصحة نعالج المشكلة من كل النواحي سواء المنظرين وغيرهم، كما أننا لا ننظر إلى الضحية فقط، فالطرفان لهما نفس الدرجة من الأولوية». وبين الوادعي أن مصدر التنظير يكمن في عدد من الجهات منها مواقع الإنترنت أو بعض الدعاة أو العلماء، لكن المناصحة تسعى لمعالجة المسألة من كافة جوانبها»، مؤكدا أن فتاوى التكفير قد تكون سببا في إقدام الشباب على الأعمال التفجيرية. وطالب الوادعي العلماء بتقوى الله «على هؤلاء العلماء أن يتقوا الله في الشباب حتى لا يكونوا ضحايا، أما الشباب فأنصحهم أن يتحروا الفتاوى من العلماء الموثوق بعلمهم، وأن يدركوا أن لكل سؤال من هو أهل للإجابة عنه، وأن لا يسألوا عن القضايا الكبيرة كل أحد وإنما العلماء الراسخين في العلم، مشددا على أنه لا يفتي في القضايا التي تهم الأمة إلا اللجنة الدائمة للفتوى وهيئة كبار العلماء، أما أن يفتي كل إنسان على هواه بدون معرفة بالحال أو الواقع فهذا تجن، موضحا أن كثيرا من الشباب راحوا ضحية للفتاوى غير المنضبطة. تجاهل المشكلة وألقى الباحث الشرعي الدكتور رضوان الرضوان باللائمة على من يفتي في المسائل التي تهم عامة المسلمين بشكل فردي، مبينا أن مفتيها لم يأتوا إلى لب المشكلة الحقيقية في المجتمع من الحديث عن ظلم المرأة وما تعانيه، لكننا نجدهم يناقشون قضايا سطحية، متجاهلين الحديث عن حفظ كرامة المرأة في مكان عملها. واعتبر الرضوان من يصدرون هذه الفتاوى متحدين في أفكارهم مع الإرهابيين والخوارج؛ لأن حجة كل منهم واحدة سواء التي تصدر من خلال بعض المنابر أو المحاضرات أو الفتاوى المترجلة التي تخرج دون إجماع أو بحث مستفيض، فكلاهما يتخذ التحميس والتهييج منهجا له. إمكانية المحاكمة وألمح المستشار القانوني الدكتور ماجد قاروب إلى إمكانية محاكمته من يصدرون الفتاوى التكفيرية وفق القواعد العامة بشرط تثبيت الصفة والمصلحة، إضافة إلى تحديد هوية المدعي وصفته ومصلحته في إقامة الدعوى على المدعي عليه. وبين قاروب ضرورة وجود الرابطة بين الطرفين، إذ أن المسألة محكومة بالقواعد والمبادئ العامة، وبالتالي إمكانية إقامة الدعوى لكل من له صفة أو مصلحة تجاه أي فعل أو قول.وشدد المستشار القانوني على أن التكفير لا يتم إلا عن طريق القاضي الشرعي أو ولي الأمر، فهناك أمور يجب أن تكون مقننة ومحددة، معتبرا أن رأي الفرد الذي يقع ضمن مجموعة لا يمثل رأي الكل أو الجهة التي ينتمي إليها مالم يتم إصداره بشكل جماعي.