المناسبات التي تعود الناس عليها في أوقات معلومة ينتظرونها كل شهر أو عام أو أكثر أو أقل ساحات مفتوحة للذكريات، وميادين فسيحة يركض فيها الإنسان طولاً وعرضاً متذكراً مواقف سلفت وأحبَّة غابوا وأعمالاً مرتبطة بتلك المناسبات، فما تكاد تقترب المناسبة حتى تتحرَّك تلك الذكريات بما لها من جمال الماضي وجلاله، ومن حُرْقة الفراق ولوعته وأحزانه، وهي في حالاتها كلِّها ذكريات ثمينة ذات قيمة كبيرة، ومكانة خاصة عند الإنسان. ورمضان الكريم من أهم المناسبات، وأكبرها أثراً عندنا نحن المسلمين، لأنه شهر ذو سَمْتٍ خاص، عبادة، وعلاقات اجتماعية، ورقة طبع وميلاً إلى الرحمة والإحسان، ولهذا تميل فيه نفوس المؤمنين الصائمين إلى الخير، وتفتح لها الرِّقة فيه باباً واسعاً إلى المشاعر المتدفقة، والعاطفة الجياشة، والإحساس بالناس إحساساً فيَّاضاً ظاهراً للعيان. ولعل من أهمِّ الأبواب التي يفتحها رمضان الكريم في نفوس الصائمين باب (الذكرى) بأطيافها الملوَّنة، وصورها المتعدِّدة، ذكرى الأهل والأحبة والأصدقاء، ذكرى المواقف المتميزِّة في حياة الإنسان. ولعل ما يحدث -أحياناً- من جيشانٍ وبكاءٍ مرتفع من بعض المصلِّين تجاوباً مع الدعاء في آخر ركعةٍ من التراويح إنما هو من نتائج تلك الرِّقة و (الشفافية)، وأذكر أنني نصحت أحد الأئمة كنت أصلي معه التراويح قبل سنوات قائلاً: لقد أشجيت الناس وأبكيتهم بدعاءٍ طويلٍ مصنوع، واستغرقت فيه وقتاً طويلاً لا يتناسب مع طول ركعات صلاتك، إستخدمت فيه من التنغيم الصوتي، والرفع والخفض، والتباكي والإطالة في الدعاء للموتى مع وصف طريقة خروج الروح وانتزاعها، وغسل الميت وتكفينه، وحمله على الأعناق، ووصف اللحود وما يصنع فيها الدود، وغير ذلك من التفاصيل ما لا تدعو إليه الحاجة، مع أني على يقين من أنك تعلم أن هذا من التجاوز في الدعاء -كما يقول العلماء- فقال لي: صدقت وسأقتصر -بإذن الله- على جوامع الدعاء من الكتاب والسنة، ففيها البركة، وانشرح صدري بهذا الخلق النبيل، وهذه الاستجابة لنصيحتي، وقد وفى بما وعد في الليلة التالية لحديثي معه، وما أجمل ذلك الدعاء الجامع المانع الذي لم يتجاوز سبع دقائق، بينما استغرق الدعاء المفصَّل المسجوع حوالي خمس عشرة دقيقة، ثم كانت الليلة التي بعدها، ففاجأني صاحبي بالعودة إلى ذلك الدعاء المفصَّل المسجوع، وقال لي بعد الصلاة، اعتذر إليك فإنها رغبة بعض المصلّين والمصلّيات الذين يجدون في الدَّعاء المفصَّل ما ينفِّس عن صدورهم المكلومة بفراق قريب أو حبيب، ويدفعهم إلى البكاء الذي يرجون مثوبته عند الله. وما زدت على أنْ قلت له: أنت أدرى أنَّ إصابة السنَّة أعظم أجراً، أما ذكرى الأحبة فإنَّ قدوم رمضان يثيرها أصلاً في النفوس. لا مفرَّ من صور الذكريات في رمضانِ الكريم، وقد مررت كغيري من الناس وما زلت أمر كلَّ عام بهذا الثراء في عالم الذكرى في رمضان، أتذكرَّ من كان يصوم معنا من أحبابنا الذين رحلوا، وأشعر بهم شعوراً عميقاً لا يحدث بهذا العمق إلا في شهرنا المبارك الحبيب، وما زلت أذكر ذلك الإحساس بفراق والدتي الحبيبة في شهر رمضان المبارك في عام 1427ه حيث ذهبت إلى الباحة لإقامة دورة تدريبية في الإلقاء، وهو أوّل رمضان نصومه دون أن تشاركنا صيامه -رحمها الله- لقد هاجت بي مشاعر الحزن على فراقها، وانهالتْ عليَّ الذكريات بصورة عجيبة لم أكن أتوقَّع أنها ستكون بذلك العمق والثراء، ولولا أنني فزعت إلى ربي سبحانه وتعالى ذكراً ودعاءً لاستطاعت تلك المشاعر الحزينة أنْ تحول بيني وبين الإحساس بالحياة، وهكذا هي -دائماً- زوارق الذكر والدعاء واللجوء إلى الله تجيد خوض محيطات الحزن بجدارة واقتدار. وقد عبَّرت في ذلك اليوم 10-9-1427ه عن هذه الحالة بقصيدة عنوانها (قراء في كتاب الحنين) أقول فيها: باحةَّ الحب والصِّبا والشباب=خبريني ما سرُّ هذا العذاب؟ في حنايا الفؤادٍ خبَّأت حزني=وحبست الدموعَ عن أهدابي فلماذا أرى ملامح جرحي=نقلتْها إلىَِّ خُضْرُ الرَّوابي؟ ولماذا أرى الجبال قلاعاً=من أنيني مغمورةً بالضبابِ؟ ودَّعتْنا أمِّي فلله حزنُ=جارفُ في الفؤادِ، لولا احتسابي وهي قصيدة طويلة منشورة في ديوان (هي أمِّي). كتاب الحنين، كتاب كبير لا يخلو سطر من سطوره من لوحةٍ بديعة لمشاعر الإنسان، ونَبْض قلبه، وإحساسه بتجدُّد الذكريات مع تجدُّد المناسبات المتكررة في حياته. أسأل الله ألا يحرمني وإياكم من جلسة الذكريات الرائعة على أرائك الجنَّة إنه سميع مجيب. إشارة: لم أزلْ أذكر الأمومةَ نَهْراً=يمنح الأَرْضَ لهفةَ الإِخصابِ