** حمل الابن شهادته الثانوية وهو يكاد أن يطير فرحًا بها. أجبر أباه على أن يقيم له (حفلة تخرّج)، تململ الأب أولاً، ثم وافق ثانيًا تحت إلحاح وضغط (المدام). ** سألت الأم بحيرة زوجها: ألم تفرح بتخرج ابنك؟ أجاب ببرود: سأقول لكم (لاحقًا). وكانت الإجابة هذه مثيرة في حد ذاتها! فأي أب يؤجل في داخله لغة الفرح بفلذة الكبد؟ لكن مَن يعرف الحقيقة يدرك معنى تلك الإجابة الباهتة في خاطر ذلك الأب التعوب. فالابن (الفرحان) له أخ سبقه العام قبل الماضى، ولا زال (يتلطش) في سراديب القطاع الخاص، بعد أن لفظته الجامعة مع الآلاف غيره. وله أخ أكبر تخرّج في الجامعة ذاتها العام الماضي، ولا يزال مع كل شرق يطرق كل باب؛ حتى حفيت قدماه، وترمدت في يديه أوراقه، وهو لم يجد (المنحوسة) بعد!! وله أخت كبرى تخرجت من ثلاث سنوات، وحين تعبت علّقت شهادتها في مطبخ أمها، ثم راحت (تشطف) نحاس المطبخ حتى يبدو أكثر لمعانًا!! ** بعد هذا لا تلوموا هذا الأب، ولا تستنكفوا الفرح لو ترمد في عينيه!! ** هذا الأب قد لا يكون وحيدًا مَن يحمل هذا الهم! كثيرون وكثيرون يشاطرونه ذات الهم بطريقة أو بأخرى! فكم آباء حملوا همّ قبول أبنائهم في الجامعات؟ وكم آباء حملوا هموم أبنائهم وهم ينامون على شهاداتهم تحت رؤوسهم؟ ** وكان الله في عون كل طيوف المجتمع هذه الأيام.. الكل يعيش على صفيح ساخن.. فترة القبول الجامعي فترة محمومة، و(المقعد) داخل أسوارنا الأكاديمية أصبح أغلى من الذهب! ** ولا تلوموا ثانية آباء يحملون همومهم مع أبنائهم على بوابات الجامعات وهم يتساءلون في ألم: متى سيجد كل خريج من الثانوية مقعدًا جامعيًّا بيسر وسهولة؟ وعليكم أن تقدّروا خوفهم، فهم ينظرون إلى باب الجامعة بعين، وإلى الرصيف بعين أخرى! أكثرنا لا يقف في منتصف النظر فيتلمح البدائل الأخرى! أكثرنا لا يزال يفكر في روب الجامعة، ولا شيء آخر سواه! ** قضية البدائل بلا شك أنها تمثل حلولاً أخرى ستفرضها حتمية المرحلة شئنا أم أبينا، ولكن القناعة بها تحتاج إلى وقت، وإلى جهد، فأن تزيل جبلاً أهون من أن تغيّر فكرًا!! ** المجالس والإعلام بدأت تقتات من هموم الناس، أمّا الأمرّ من ذلك فإن هذا الهم أصبح عادة سنوية، ولا زالت الحلول الجذرية لم تكتمل بعد!! ** حالمون يقولون: امنحوا أبناءنا مقاعد للدراسة، ووظائف بعدها! ** ومناكفون للحلم يردون: ليس شرطًا أن كل خريج ثانوية يدخل الجامعة، وليست الدولة ملزمة بأن توظف كل خريج!! ** والقضية (هنا) تظل مطروحة التداول ما بين الرغبة الحالمة، والرؤية التي لا تخلو من واقعية. ** كلنا نريد لأبنائنا أن يكونوا داخل أسوار الجامعة، وكلنا نحلم بأن نرى أبناءنا على مكاتب وثيرة في وظائف مرموقة! وتظل (الإشكالية) في الواقعية التي تساعد على تحقيق الحلم، فالجامعات لا تستطيع استيعاب كل الخريجين، والدولة لا تملك طاقة التوظيف لكل الخريجين! أمّا (الإشكالية) الكبرى فهي فينا نحن، فلحد الآن لم نستوعب البون ما بين الحلم والحقيقة، وأن هناك فروقًا كبيرة بين رغباتنا وواقعنا، ومشكلتنا أننا لم نتفهم هذا، أو أننا لا نريد بشكل آخر أن نتفهم طبيعة المرحلة ومتغيراتها!! ونظل نعاني وكأننا ننتظر عصا سحرية، أو حلولاً تهبط من السماء لتحقق الأحلام!! ** هناك أشياء كثيرة هي بمثابة (تداعيات) مفتوحة أدّت إلى مثل هذا الحال! أولها غياب التخطيط الذي أعتبره وراء كل مشكلاتنا التنموية والمجتمعية!! ** غياب التخطيط دائمًا يغيِّب الأهداف، والتقييم، والنتائج. وبالتالي فأنت حتى ولو تقدمت فأنت أشبه بمن يسير معصوب العينين، لا تدري ماذا تريد؟ وكيف تحقق ما تريد؟ ولا أين وصلت؟ وماذا حققت؟!! ** وأنا لا أعني تخطيط (كيفما اتفق)، فهذا لدينا منه الكثير، ولكني أعني التخطيط المنهجي الذي يقودك إلى تحديد احتياجاتك، وأولوياتك ما بعد 50 عامًا مقبلة!! وللأسف الكثير من أمورنا تسير على طريقة (طقها والحقها). باحثون قالوا بأن مئات الدراسات الكفيلة بمعالجة هذه القضايا لا زالت حبيسة الأدراج، وخبراء يقولون بأنك حين تغيّب المنهجية العلمية، فإنك تخطط بعين كفيفة أو أنك لا تخطط أصلاً. ** نحن الآن (مبعثرون) إن جاز التعبير.. التعليم العام في جهة، والتعليم العالي في جهة، والتعليم الفني والمهني في جهة، والقطاع الخاص في جهة، والقطاع الحكومي في جهة، وسوق العمل في جهة، كل يعمل على شاكلته! فكيف لقدم أن تستدل طريقها في وسط كل هذه الأدغال؟ وهذا (التوهان) هو سبب التشطّر الذي أضاع، وضيّع!! ** التعليم العام ينظر إلى ما تحت الكراسي، ويقذف بالطوفان، والتعليم العالي يحول بوابته إلى عنق زجاجة، ثم يترك البحر رهوًا، والقطاع الخاص ينفض وطنيته عند منعطف مصالحه، وديوان الخدمة ضاق بابه كسمّ الخِياط، والبطالة أصبحت الغول الذي نقرع له الطبول، فيرقص فوق أجسادنا، ونحن لا زلنا نمارس (التنظير) لآلامنا دون أن نقوى على الخلاص منها!! ** بعض الأصوات الخبيرة حمّّلت وزارة التخطيط (وزر) كل ما يحدث من تخبّطات! وبعض ثقاة الفكر والتخطيط يوجّهون نداءً عاجلاً بضرورة وجود مؤسستين حكوميتين فاعلتين، إحداهما تفي بإعداد وتقييم المخرج، وبحاجات البلد المستقبلية، وأخرى ستتجمع في كفيها كل الخيوط، وتنسق ما بين كل الجهات!! ** الدراية دراسة، والدراسة تخطيط، والتخطيط (الله بالخير)!! ولهذا لا أستغرب على مدير جامعة حين قال: إذا لم نحدد ما نحتاج على مستوى الوطن، فلا تطلب مني معرفة ما لا أعرفه حتى ولو كان داخل جامعتي!! ** وفي النهاية فإذا كان المقعد الجامعي والوظيفة هما عملية تشاركية تكاملية، تحتاج إلى التنسيق وإلى التلازم والإلزام.. فإن كل شيء يظل مرهونًا بالتخطيط، وفي وعي المجتمع بأن ظرف المرحلة لم يعد صالحًا لعقلية ما قبل ثلاثين عامًا، وذلك حتى نقتنع بالبدائل، ونعمل بالخيارات المتاحة! فهل نلحق أنفسنا قبل أن تصل هذه المشكلات إلى درجة التشبّع، فيصعب حلها؟!