قال لي صاحبي مستبشراً: سأصف لك صوراً مضيئة رأيتها هذين اليومين لبعض شبابنا، لعلك تفرح بها كما فرحت بها أنا حينما رأيتها؟! قلت له: ما أسعدني بذلك، وما أحوجني كغيري من الناس إلى أخبار تُدخل السرور والفرحة على قلوبنا، وترينا النصف الممتلئ من الكأس حسب تعبير المتفائلين المستبشرين في هذا العصر. قال: وقفتُ في صف من السيارات أمام أحد مطاعم الوجبات السريعة، وطال بنا الانتظار حتى نحصل على تلك الوجبات التي أصبحت هدفاً لأبنائنا وبناتنا، وحانت مني التفاتة إلى سيارة وقفت أمام المطعم في مكان قصي من المواقف، وطال نظري إليها دون قصد، ثم قصدت النظر إلى تلك السيارة حينما رأيت قائدها الشاب يشير إلى عامل نظافة يرفع من الأرض ما يلقي الناس عليها من الأوراق وبقايا الطعام، وحينما اقترب العامل من ذلك الشاب أخذ من المقعد الخلفي لسيارته علبة مربعة وقدمها إلى ذلك العامل مبتسماً، فرأيت السعادة تكاد تطفح من ملامح وجهه التي تعبر عن تعبه ونصبه، ثم انصرف، ويبدو أن الشاب قد أوصاه بدعوة عمال آخرين، وكلما جاء عامل أعطاه ذلك الشاب مثل تلك العلبة (الكرتونية المربعة التي تأكد لي أنها علبة ملابس رجالية)، وقد علمت بعدها أن هذا الشاب كان يتصدق على أولئك العمال بكسوتهم، وأن هذا شأنه بين وقت وآخر. قلت لصاحبي: ما أجمل هذه الصورة، وما أسعدني بها، وما أحوجني إلى شكرك وتقديرك على هذه التحفة الجميلة. قال لي: وأزيدك من مثل هذه الصورة ما يزيدك ابتهاجاً، فقد وقفت عند محطة للوقود، وإذا بسيارة غير نظيفة ولا مرتبة يقودها شاب بطريقة توحي بميله إلى الخفة وعدم الاستقرار، وقد استهجنت عمله حينما أوقفها أمامي بطريقة معاكسة، وطلب من عامل المحطة أن يزود سيارته بالوقود، ثم نزل متجهاً إلى (البقالة)، وكنت أتابعه بنظرة استثقال لهذا الأسلوب الذي أوقف به سيارته، وأخذت أنظر إلى وجوه العاملين في المحطة وهي تطفح بالعرق من شدة الحر الذي بلغ في وقتها سبعاً وأربعين درجة كما هو موجود في جهاز مقياس الحرارة، وشعرت بقدر كبير من الشفقة عليهم، وشكرت الله على نعمة التكييف الذي أستمتع به داخل سيارتي الجديدة، وقلت لنفسي مخاطباً أولئك العمال (الله يعينكم على هذا الحر والسموم)، وبينما أنا كذلك إذا بذلك الشاب يخرج من البقالة وقد حمل كيساً كبيراً فيه عدد من علب العصير الباردة، وأصابني شيء من الذهول حينما رأيته يعطي كل عامل علبة من ذلك العصير البارد وهو يبتسم لهم، وهم يبادلونه بابتسامات صادقة، ويشكرونه على ما قدم لهم، وهنا صغرت عندي نفسي جداً، وتغير شعوري نحو ذلك الشاب إلى التقدير والدعاء له، وإحساسي بأنه تجاوز الشفقة على العمال إلى القيام بهذا العمل الخيري الجليل، وخجلت من نفسي أن دوري معهم لم يتجاوز الشعور بمعاناتهم، وشعرت بالفرق الكبير بيني وبين ذلك الشاب المتصدق المنفق. قلت لصاحبي: سبحان الله، ما أجمل هذه الصور التي تسردها علي، وما أجدرنا بأن نبرز أمثالها؛ لأنها قدوات صالحات يمكن لنا أن نتعلم منها لنتحول من الأحاديث المجردة، والمشاركة الشعورية، إلى العمل الذي يخرجنا من زوايا إهمالنا وسلبيتنا، إلى فضاءات اهتمامنا وإيجابيتنا. لقد شرحت صدري بهاتين الصورتين المضيئتين يا صاحبي، وأنا على يقين بأن أمثالهما في مجتمعاتنا كثير. أرأيتم - أيها الأحبة - كيف يمكن أن نتجاوز الحديث عن جوانب التقصير، ونقدها، إلى العمل على معالجتها بأعمال يستطيع كل واحد منا أن يقوم بها دون عناء، فنكون بذلك أعضاء صالحين فاعلين في مجتمعنا، مع ما لنا من الأجر عند الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً؟! إشارة من يجعل الرحمن مقصد قلبه=يبقى شريفاً في الحياة نزيها