خرج وحيد زمانه في قنطورة الظهيرة يدور في أنحاء القرية .. يتصفح وجوه المارة .. ويشم نسيم عليل القصعة .. يتلفت يمنة ويسرة .. يستمتع بالمناظر الطبيعية .. في حمى القصعة أبصر راعية .. ترعى الغنم بكل همة .. في يدها مغزل تحركه بكل مهارة .. بل بسرعة وخفة .. هذه منيرة صائمة الدهر كله .. حياتها كلها عمل وعبادة .. وهي أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة .. ولا السفر والسياحة .. الكرة الأرضية عندها في حدود العبالة .. بل وحدود محظرة ورحبان والغمدة .. لكن هذه القروية الهادئة والتي لم تتزوج ولا مرة هي نموذجاً لامرأة تقية .. حياتها صيام وذكر وصلاة .. وأعمال منظمة في كل يوم وليلة .. كل يوم ترعى غنمها في صفاح القرية .. وآمالها وطموحاتها الدنيوية محدودة .. ولكن للآخرة تلهث وراء الجنة .. منيرة وجه مألوف في القرية .. كأنها أمة في قرية القصعة .. لا تأبه بالكلام والثرثرة .. ولا أحياناً للشداق والمسخرة .. منيرة ارتبطت بحياة القصعة .. قروية أصيلة وأبية عفيفة النفس وقلبها كله طهارة .. تعرف كل شيء يدب في هذه القرية .. بأشكالها وأصنافها المختلفة .. تعرف اسم وحياة كل حشرة .. وخصائص كل نبتة وعشبة .. هذا قلموز وتلك كمدة .. وآخر دبران وتلك همجة .. وأبو جعران وصفات كل نملة .. وما ينبت من أنواع الشوك والنجمة .. وأنواع من الحراق والسعور والعثربة .. إذا انجرحت وضعت على جرحها من ورق العثربة .. وإن عطشت مصت من الزهرة .. ومن السنوت تعالج به أمراض عديدة .. قد تضع على الجرح عش عنكبانة تعرف اسم كل حمى وركيبة خبراتها عن القرية غير محدودة .. كل شيء في بيئتها .. هي فيه موسوعة .. ولا زال مخها ذاكرة نظيفة غير ملوثة .. عمرها قارب المئة ولكن كأنها شابة في الأربعين فهي خفيفة وقوية وسريعة تطلع الجبل وكأنها تطلع درجة .. تجاعيد الزمن في وجهها بادية .. في ظهرها انحناء وتقوس لاتنكرة.. يدها الغليظة لو امسكت به حجراً لفلقته .. عبادة وقوة وأمانة .. عمل وكفاح وشجاعة .. هدوء وعفاف ونفس عزيزة .. كل هذه الصفات في بنت القرية .. إذا حزنت لجأت إلى الله .. وإذا غضبت غضبة قوية تعوذت من كل شيطان وهامة .. رأت من بنات المدن مجموعة .. ملابسهن زاهية .. وحركاتهن بطيئة ,.. وكلامهن ميوعة .. أيديهن ناعمة .. لا تكاد الوحدة تمشي خطوة حتى تصقط وتتأوه لحظة بعد لحظة .. ابتسمت منيرة ابتسامة ساخرة . وهزت رأسها بقوة .. وتمتمت بكلمات غير مفهومة .. وكأنها تصف حياتهن المستعرة .. كل اهتماماتهن في الحياة مكياج يغطي القباحة والدمامة . .. وانترنت يعبث بيومها بصورة دائمة .. أغاني وتمثيليات مضيعة للوقت والحياة .. وأسواق مليئة باللعب والدجة .. ومهلكات للدين والأخلاق والعفة .. أنترنت وسواق وأقمار صناعية .. وجوال .. يا لسوء التربية .. هذا مفهوم بنات المدن عند منيرة .. من كثر ما تسمعه عنهن في الصيفية .............................. صرخت منيرة : يا وحيد زمانه .. هذه حياتي شرف وعفة .. عمل وكفاح وعزة .. أما حياتهن .. فترف وضياع وميوعة .. وحيد : صبراً ياعمة منيرة .. ليس كل بنات المدن بهذه الصورة .. إن منهن الداعية والإنسانة الأصيلة .. ومنهن الأستاذة والحافظة للقرآن الكريم كله .. وقلة منهن تكون بهذه الصورة مشت منيرة تذكر الله في كل لحظة .. وهشت على غنمها بعصاتها الغليظة .. تحرك المغزل بسرعة ومهارة .. استوقفها وحيد زمانه .. ليوجه إليها بعض الأسئلة السريعة .. كيف حالك يا عمة منيرة .. هي ترد : الله يسلمك أنا طيبة .. وين غادية يا عمة ؟ باروح البيت يا خه .. ماعاد إلا قنطورة الظهيرة .. وانت .. وانت روح عن شمس الظهيرة .. من وين جبتي المدار ذيه ؟ هي ترد : مدار ايوه منين لك نشزناه في البيت .. اشوف لونه أحمر ؟ ايواه من الغزل الأحمر أفرع شيء .. عد اسويلك قهوة .. مشكورة يا عمة .. الشكر لله سبحانه .. بس انتي صائمة يا عمة منيرة .. الحمد لله يا ولدي لي أربعين سنة ما افطرت ولا نهار يكون نهار العيد والا مريضة .. وما قد تركتي الصلاة يا عمة آه .. وش تقول ياخه .. هو حد ما يصلي ؟! الكفار هم اللي ما يصلون .. اوه من حريم في المدن ما يصلون .. الله ربنا وربهم ...يا ويلهم من الله ضيعتني ولا الله يوجه لك .. دخلت بيتها متعبة .. إحدى قريباتها .. فين انتي لا ذلحين يا اخته .. احويتي .! قلنا لا يكون قد طحتي في إحدى السندان .. بغينا نرسل واحد من السفان يلمح لك نذل يكون متي ونغدي بشرهتك .. همَّ لا مت فالحمد لله .. المقبرة مفتوحة .. والجماعة ما بيقصرون .. قالت أخرى : ما بنا الا الغنم ماحد يزيد يرعاها .. السفان في المدارس والبنات نذل عليهن .. قالت منيرة : اذبحوا منها صدقة لي وبيعوا الباقي .. هيا بدي موتي ذلحين .. قالت الأولى : أقول ماهلا نمزح عليك يا منيرة .. والله ماحد يصخاك في البيت ذية انا باغدي اشب في الملة ولا ذه اعجني العشاء وخليني انا باكب عليه .. علك تلقين لك لقمة تفطرين بها .. قالت منيرة .. باعجن وباغدي اوطي راسي .. لين يذن للعصر .. ان كان غفيت قيموني أصلي .. واخرج الغنم .. ......... منيرة نموذج فريد .. بين نساء القرية .. فكرها وثقافتها محدودة تختص بحياتها في البيئة .. لكنها مدرسة في الأخلاق الإسلامية الحميدة ... مدرسة في البر والعمل والضيعة .. ومدرسة في الإحسان والأصالة والشهامة .. ومدرسة في الولاء لعائلتها وللقرية .. ...................... وفي صباح مرة صاح الصائح في كل أرجاء القرية .. ماتت منيرة على سجادتها البالية المقطعة .. لفظت أنفاسها الأخيرة .. بكل هدوء وسكينة .. وجهها كأنه فلقة قمر في ليلة تمامه ..