كيف يمكن القبض على الإهمال؟ ليس لمحاكمته أو الإساءة إليه لا سمح الله، وإنما لإجراء حوار معه حول ظروف ولادته ونشأته وتعاظم شخصيته، ماذا فعل حتى أصبح بهذه السطوة، وهذا النفوذ، كيف وطد علاقاته مع كثير من الناس حتى أصبحوا يغضون الطرف عنه ويمنحونه رغد الحياة، بل ويتسترون عليه ولا يشيرون إلى وجوده مهما كان دوره في أي مشكلة أو حتى كارثة، كيف صار هذا الإهمال العظيم يفعل الأفاعيل في مواقع كثيرة ثم يختفي عند البحث والسؤال عن الفاعل، كيف يستطيع هذا الإهمال الفذ أن يتملص من التهم ويلبسها غيره من الجمادات أو البشر الذين لا حول لهم ولا طول، أو يسجلها ضد مجهول، لابد أن لهذا الإهمال من المهارات ما يند عن الحصر ويتجاوز قدرات العقل حتى يصبح موجودا وغير موجود في وقت واحد، هل يلبس طاقية الإخفاء التي سمعنا عنها في قصص الخيال، أم إنه من الجن الذين يتمتعون بقدرات خارقة للظهور في الشكل الذي يريدون متى أرادوا ويختفون بنفس الأسلوب؟ أسأل وأنا أعرف أن البعض يقول الآن إنه يشاهده بأم عينه يتجول في جده التاريخية المحترقة، وهو يمد لسانه ساخرا من مشاهديه ومتحديا أيا منهم أن يشير إليه ويقول اقبضوا عليه، إنه يتحدى، بل ويقول ابحثوا عن شماعة أخرى وعلقوا عليها أسباب الحريق، أما أنا فلست بالصيد السهل كما تتوهمون، يمكنكم أن تضحوا بمالك بيت تاريخي طماع لم يستجب لإنذارات البلدية التي تتعب في صياغتها وطباعتها وحملها وتعليقها على جدران المنازل، أو ارتاحوا فمشجب الماس الكهربائي الخارج عن الإرادة جاهز، أو إن شئتم فهؤلاء الوافدون الذين يسكنون هذه البيوت أفضل ضحية يمكنكم اعتبارهم السبب الرئيس خلف الحريق وابدؤوا تشكيل لجان البحث عنهم والتحقيق معهم وترحيلهم، فإذا لم تقتنعوا بما أقدم لكم من مخارج فالكرة في مرماكم، اذهبوا وابحثوا عن السبب الذي يعجبكم ويريحكم، فهناك بلدية اكتشفت جدة التاريخية قبل شهر ولم تدخر وسعا في إدراك خطورة الاكتشاف، وهناك ملاك لا يعلمون عما يملكون وإن علموا لا يستجيبون لنذر الخطر، وهناك تجار يخزنون بضائعهم دون وعي، وهناك وافدون يسكنون بإيجارات زهيدة، وهناك شركة استلمت الموقع بعد اكتشافه لكنها من فرط الدهشة مازالت تتأمل، وهناك بنايات ترتدي ثيابا من خشب، وهناك أسلاك كهرباء عارية بدون احترام لمشاهديها، وهناك، وهناك... اختاروا ما شئتم، أما أنا فإن القبض عليَّ دونه خرط القتاد. الإهمال كما لاحظتم يتحدى الكل، بل إنه يضحك ساخرا ممن زعموا مشاهدته يتجول في حريق جدة التاريخية، وهو محق حين يسخر فهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها بسببه مثل هذا الحريق، وفي كل مرة يفعلها ثم يختفي أو يتم إخفاؤه، ويضع جهاز الدفاع المدني أمام المعضلة التي تتكرر في كل مرة، إطفاء الحريق ثم البحث عن السبب، وكأن هذا الإهمال يقول لو كانت شمس كان من أمس. السيد العظيم (الإهمال) يقرؤكم السلام، ويقول اقبضوا المليار وارفعوا الأنقاض ورمموا المباني، ولا تنسوا نصيبي، فأنا هنا أنتظركم، فإني مقيم ما أقام عسيب.. وغدا نواصل.