الأمانة، والشرف، والقناعة كلها جواهر يتحلّى بها الإنسان أينما كان، وأينما وجد، لكن الإعلام يعطي شهرة واسعة لذوي الأمانة، والشرف، والقناعة إذا نجحوا في الوصول إليه، ومن بعدها تنهال الأحاديث، ويكثر الكلام، وتنتشر الصور، وينشغل المجتمع بالحديث عن النجم الأمين، والنجم الشريف، والنجم القنوع، وفي هذا السياق كما يقول المحللون فإن شابا في مقتبل العمر يعمل في وظيفة من الوظائف الدنيا دخل عالم الشهرة من أوسع الأبواب، فصار بين يوم وليلة نجما لامعا يضيء صفحات الصحف، وعنوانا رئيسيّاً تكتب تحته الأقلام تمتدح شهامته وتشيد بمعدنه، وتدعو الباقين دون تحديد إلى الاقتداء بهذا العامل البسيط، الأمين، الشريف، القنوع، وبطل الشرف والأمانة والقناعة اسمه "جمال خيري" يعمل سايسًا في معرض سيارات، بدأ مشواره اليوم بمهمة عاجلة للمعرض الذي يعمل به، وعند عودته وجد سيارة فارهة على حد تعبير الجريدة التي نشرت القصة لفت نظره إليها وقوفها، وحيرة صاحبها الثري العربي، ومن باب الشهامة عرض خدماته لإصلاح السيارة، فشكره صاحبها الذي استدعى فنيا لإصلاح العطل، وبعد ان مضت السيارة شاهد السايس حقيبة سوداء خشي من سوء النية من وجودها بالقرب من محطة أتوبيس، فظل يرفسها بالقدم اليمنى مرة، وبالقدم اليسرى مرة ليعرف ما بداخلها، وكانت الشوطة الأولى غير متقنة فضاعت في الهواء، وجاءت الشوطة الثانية محققة للهدف، فانفتحت الشنطة وطارت منها سلسلة ذهبية كبيرة، لمعت في الشمس فخطف لمعانها الشاب الذي استبعد سوء النية، وعرف أن داخل الشنطة أشياء ثمينة توالي بروزها ولحقها قبل أن تتساقط على الأرض "ذهب ومجوهرات ودولارات" والسلام عليكم. وبذكاء السايس البسيط، وخبرته أدرك أن صاحب الشنطة الذي هو صاحب السيارة الأنيقة سيحضر إلى نفس المكان ليتفقد أثر الشنطة الضائعة، وبالفعل حضر السائح الثري، ووجد شنطته في أحضان جمال خيري الذي أعادها له، ولم يقبل على الفور مكافأة سخية مقدارها نصف مليون - تنقله من الأرض إلى السماء - وقرر في أحاديثه الصحفية أن هذا المبلغ سيتبرع به للمحتاجين في المؤسسات الخيرية، ثم استدرك انه لن يقبل اي تبرع، وأي مكافأة على أمانته، وشهامته إلا من أبناء بلده، وبني جلدته - وهذا جعل مسلسل الأمانة يطول قليلاً - فما ذنب أبناء بلده، وبني جلدته ليكافئوه على عمل قام به لصالح مواطن عربي فقد رأس ماله وبادر بوضع تقدير مادي عاجل للسايس، لكن السايس - هداه الله - رفض هذه المكافأة، واعتبر من جانبه أن "الأمانة، والشهامة، والقناعة" ليست منفردة، ومجتمعة عملة نادرة - كما يتوهم البعض، وكما يظن البعض - وقد أثبت هو ذلك عمليّاً ضارباً عرض الحائط بسوء أحواله المادية، وظروفه الاجتماعية القاسية، "عشت يارمز الأمانة، وعاش صاحب الشنطة، وعاش كل من شارك في هذه الزفة"!!