يُقال: إن (العاقل مَن يصنع قاربًا يعبر به النهر، بدلاً من أن يبني جدرانًا حول داره لتحميه من الفيضان). وفيضان العولمة، وطوفان الثقافات الأخرى أكبر وأعظم من أن تحميها جدران مهما علت، وأسوار مهما صلبت.. إلاَّ جدرانًا من العلم والفكر تحيط بالعقول، وأسوارًا من الثقة والإيمان تحمي القلوب. وأمّا مصادرة كلِّ كتاب تُشم فيه رائحة مختلفة عن رائحة التشدّد الذي يعشقه البعض، أو منع كل مادة تمتزج بنكهة تختلف عن نكهة الانغلاق الذي تقدّسه القلة، فلن يُجْدي في النهاية شيئًا، ذلك أن الدار ستغرق، ومن فيها سيهلك. العاقل الواثق من نفسه لا يخشى خطر الفكر الآخر، إلاَّ إذا كان هو نفسه ضحلاً، أو إذا كان في الأصل معجبًا بالآخر لقوته، وسطوته، أو لروعة ما عنده من فكر وعلم وحداثة، خاصة إذا كان نموذجًا يمشي على الأرض، يخاطب الآخر بسلوكه وعمله، قبل أن يبشر بفكره وعلمه. عجبي من قوم يظنون أن في ثقافة الحظر والمنع آليات ناجحة فاعلة، إزاء القادم من وراء البحار، فهم يمنعون كل وسيلة اتّصال، ويراقبون كل شاردة وواردة، مطمئنين إلى سلامة النهاية، حتّى إذا شبّ الصغير عن الطوق، وانتقلت الفتاة إلى بيت الزوج، وأصبح كل محظور متاحًا، تاهت الأنفس، وحارت العقول، وربما حدث النقيض تمامًا. إذ تسقط جميع الجدران الوهمية، وتزول كل الأسوار الورقية، ولا عاصم عندها من أمر الله إلاَّ بقايا من إيمان قد ينقذ صاحبه، وقد لا يفعل. ليس الحل هو الانغلاق الكامل، وليس هو أيضًا الانفلات الكامل، ولا عاقل يدعو إلى الأخيرة أبدًا، حتى في أشد المجتمعات تحررًا وليبرالية. الحكمة تقول: إن (الضربات القوية لا تهشّم إلاَّ الزجاج، لكنها تصقل الحديد). المطلوب هو صقل عقلية أجيالنا الناشئة، دون إفراط ولا تفريط، ومن الصقل الجيد الاعتراف بحدود المشكلة التي تتّسع يوميًّا، ومن ثم معالجتها بالتي هي أحسن كلمة وموعظة ونموذجًا، وعبر وسائل شتّى قد تتضمن المسرحية الهزلية والفيلم الهادف، وربما الاختلاط بعوالم ما وراء البحار.