\"الشعاراتيون\" العرب مولوعون دائماً بالأسرار التي لا يعرفها أحد غيرهم من سكان الأرض، مغرمون بالاستنتاجات التي لا يمكن أن يصل إليها عقل ولا يقبلها منطق، لكنها استناداً إلى \"الأسرار الخاصة\" عندهم، عين الحقيقة وكبدها وقلبها، وهم في المحصلة النهائية لا يستطيع أوسع الروائيين خيالاً أن يتخيل خيوط مؤامرة كتلك \"المؤامرة\" التي يحيكها العالم الحقيقي من الأحياء لاغتيال أو الحط من مكانة \"الشعار\" الذي يتفيؤون ظلاله نهاراً ويلتحفون بدفئه ليلاً. و\"الشعاراتيون\" في وطننا العربي مازالوا يجلجلون، وسيظلون كذلك حتى لو سقط \"الشعار\" الذي به يؤمنون وعنه يناضلون، بقايا \"القومية\" البائدة، مازالوا يغردون مع أن أوردة قلوب معظمهم وخلايا عقولهم ماتت وأهيل عليها التراب من زمان بعيد ونموهم الفكري توقف مع آخر بيان تلاه المذيع الشهير \"أحمد سعيد\" من صوت العرب. وموقدو نار \"الإسلام السياسي، أو الإسلاموية، أو الأصولية، سمهم ما شئت\" مازالوا ينفخون في ذات الموقد مستخدمين جمر الطائفية والمذهبية والتكفير والتفسيق وأهوال القيامة، مع أن ماء الحياة الهادر أطفأ في سنوات ما أشعلوا في عقود، ومع أن العالم كله أصبح بندقية واحدة مصوبة نحو أدمغتهم التي مازالت تحلم بذات الوهم الذي توهمه \"حسن البنا\" ذات صيف وهو يضع السطر الأول في سفر \"الخلافة\" المتوهمة التي وجد أتباعه وأشياعهم أولى بشائرها على يد \"الخميني\" في طهران فباركوها وصفقوا لها ومجدوها، ثم ما إن تمكن \"الملا عمر\" في قندهار حتى انتفضوا يمدون قنوات خلافتهم المتوهمة إلى كل مكان في غفلة من الزمن، مرة في صورة \"حزب\" وأخرى في شكل جماعة، وثالثة في هيئة تنظيم، ومرة باسم \"الدعوة\" وأخرى باسم \"المقاومة\" وثالثة لمواجهة \"التغريب\"، وفي هذه الأخيرة – أقصد التغريب – وجد بقايا \"القومية\" ضالتهم للتشبث بشعارهم البائد، حيث كانت \"الإمبريالية العالمية\" هي الصنم الأكبر الذي قصع القوميون رقبة حياة شعوبهم من أجل إيقاف جبروت وتسلط ذلك الصنم الوهم. التقى الوهمان، التقى الجمعان حولهما، لكن لا القبر سمح لجثة \"القوميين\" أن تغادره، ولا ماء الحياة سمح لوهم \"الإسلاميين\" أن يستعيد وهجه من تحت الرماد المتراكم الذي كومته يقظة الشعوب والأنظمة وحتميمات التاريخ، ولم يبق لبقايا أولئك وشذاذ هؤلاء سوى \"شاشة الجزيرة\" ومنابر معدودة أخرى، يطلقون حناجرهم وشعاراتهم من خلالها متوهمين القدرة على بعث الجثة القديمة أو تدارك ما يمكن تداركه من الوهم الجديد المتهاوي، مصفقين تارة \"للسيد حسن\" وأخرى ل\"بن لادن\" وثالثة \"للصمود والتحدي\" ورابعة \"للمرشد حسن والمرجع الخميني\" وخامسة \"للإمام الغائب والزعيم البائد\" وسادسة لأنفسهم حين تنتهي سلسلة من يصفقون لهم، مستشهدين بأبلغ ما قالت العرب في تأجيج حرب \"البسوس\" وجمع الحطب لنار \"داحس والغبراء\" مهرقين أطناناً من الشعر والنثر للنضال المجيد في وجه الصنم القديم من إمبريالية القوميين، إلى أن وجدوه – الخالق الناطق، سبحان الله – حياً يرزق في \"تغريب الإسلامويين\". سقط الشعاران – ولله الحمد – ، شعار الوحدة الزائف من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر على جثث الشعوب باسم النضال ضد الإمبريالية العالمية التي ابتكرها \"القوميون\" وشعار الخلافة الحالم الذي لا حدود له على جثث الشعوب – أيضاً – باسم الدين ضد جاهلية القرن العشرين التي ابتكر \"الإسلامويون\" لها مئات الحجج آخرها وأبرزها إخراج الكافرين وصد رياح التغريب. أوهام القدامى من \"الشعاراتيين\" سقطت وتلاشت ولم يبق منها إلا حناجر مبحوحة، وأوهام الجدد سقطت أيضاً وإن بقي وميض حزب، أو شرر تنظيم، أو همس جماعة تكفيرية أو تفسيقية باسم الدعوة فهي شهقات النزع الأخير، والذي يلحظ ويرصد \"شاشة الجزيرة وغيرها من منابرهم\" وحتى مواقعهم على \"النت\" ويتأمل كيف خبا وهجها بين الجماهير شيئاً فشيئاً ومازال يخبو سريعاً سيلحظ ذلك بوضوح، والمتأمل الراصد لن يلحظ خفوت وهج وسيلة إعلامية هنا أو هناك كانت مالئة الدنيا وشاغلة الناس فقط، بل لا بد أن يتأمل ما هو أبعد من سقوط الوسيلة إلى سقوط الشعارات التي قامت هذه الوسائل كحواضن لها والتي لا تفسير لسقوطها سوى إدراك الناس أن استباحة دمائهم، وإهدار حياتهم هو وقود حياة تلك الشعارات الفارغة، والآن لك أن تسأل نفسك وتتأمل كيف سقط \"الشعار\" في انتخابات لبنان هذا السقوط المريع؟ وكيف انتصر \"العقل\" فيها هذا الانتصار المدوي! وقبل أن تحدث نفسك عن تسلط أي عامل آخر غير \"العقل\" تذكر أن هناك أكثر من ثلاثة ملايين ناخب لبناني، فدعنا نتأمل في الأمر معاً وإلى اللقاء غداً.